معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

قوله تعالى : { قالوا } ، يعني : فرعون وقومه لموسى ، { أجئتنا لتلفتنا } ، لتصرفنا . وقال قتادة لتلوينا ، { عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء } ، الملك والسلطان ، { في الأرض } ، أرض مصر وقرأ أبو بكر : ويكون بالياء ، { وما نحن لكما بمؤمنين } ، بمصدقين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

71

وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات اللّه :

( قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين ) . .

وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة ، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي . وهو الخوف على السلطان في الأرض ، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة .

إنها العلة القديمة الجديدة ، التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات ، وانتحال شتى المعاذير ، ورمي الدعاة بأشنع التهم ، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي " الكبرياء في الأرض " وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير ، بكل ما فيها من زيف ، وبكل ما فيها من فساد ، وبكل ما فيها من أوهام وخرافات . لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة ، واستنارة العقول بالنور الجديد ، خطر على القيم الموروثة ، وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير ، وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند . إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام ! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون اللّه . . ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعاً - إنما تستهدف تقرير ربوبية اللّه وحده للعالمين ؛ وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها ، وتزاولها في حياة الناس . وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير . ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بربوبية اللّه وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد . .

ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير ؛ وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم ، والانقلاب على سلطانهم ، والانقضاض على ملكهم ، والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان !

إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى اللّه رب العالمين !

وما كان رجال من أذكياء قريش مثلاً ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد - [ ص ] - من صدق وسمو ، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد . ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة ، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد . كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض ، فقالوا متبجحين :

وما نحن لك بمؤمنين !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : قومه . {[14341]} { بِآيَاتِنَا } أي : حجَجنا وبراهيننا ، { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له ، { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ } كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك ، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] .

{ قَاَلَ } لهم { مُوسَى } منكرا عليهم : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : الدّين الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي : لك ولهارون { الْكِبْرِيَاء } أي : العظمة والرياسة { فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .

وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى ، عليه السلام ، مع فرعون في كتابه العزيز ؛ لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حَذر من موسى كل{[14342]} الحذر ، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده{[14343]} ويرجع إليه ، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه{[14344]} السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية ، والنفس الخبيثة الأبية ، وقوى رأسه وتولّى بركنه ، وادعى ما ليس له ، وتجهرم على الله ، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل ، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون ، ويحوطهما ، بعنايته ، ويحرسهما بعينه التي لا تنام ، ولم تزل{[14345]} المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا{[14346]} بعد شيء ، ومرة{[14347]} بعد مرة ، مما يبهر العقول ويدهش الألباب ، مما لا يقوم له شيء ، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله ، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله ، والجحد والعناد والمكابرة ، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد ، وأغرقهم في صبيحة{[14348]} واحدة أجمعين ، { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] .


[14341]:- في ت ، أ : "أي إلى قومه".
[14342]:- في أ : "من".
[14343]:- في ت ، أ : "فيعبده".
[14344]:- في ت ، أ : "عليهما".
[14345]:- في ت : "ولم يزل".
[14346]:- في ت : "شيء".
[14347]:- في ت : "وكره".
[14348]:- في ت : "صيحة".

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

الكلام على جملة : { قالوا أجئتنا } مثل الكلام على جملة : { قال موسى أتقولون } [ يونس : 77 ] .

والاستفهام في { أجئتنا } إنكاري ، بنَوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به ، وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى . وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة ، ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما .

و { تلْفِتَنَا } مضارع لَفَتَ من باب ضرَب متعدياً : إذا صرف وجهه عن النظر إلى شيء مقابل لوجهه . والفعل القاصر منه ليس إلا لا لمطاوعة . يقال : التفت . وهو هنا مستعمل مجازاً في التحويل عن العمل أو الاعتقاد إلى غيره تحويلاً لا يبقى بعده نظر إلى ما كان ينظره ، فأصله استعارة تمثيلية ثم غلبت حتى صارت مساوية الحقيقة .

وقد جمعت صلة { ما وجدنا عليه آباءنا } كل الأحوال التي كان آباؤهم متلبسين بها . واختير التعبير ب { وَجدنا } لما فيه من الإشارة إلى أنهم نشأوا عليها وعقلوها ، وذلك مما يكسبهم تعلقاً بها ، وأنها كانت أحوال آبائهم وذلك مما يزيدهم تعلقاً بها تبعاً لمحبة آبائهم لأن محبة الشيء تقتضي محبة أحواله وملابساته .

وفي ذلك إشارة إلى أنها عندهم صواب وحق لأنهم قد اقتدوا بآبائهم كما قال تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمَّة وإنَّا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] . وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام : { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } [ الأنبياء : 53 ، 54 ] ، وقد جاءهم موسى لقصد لفتهم عما وجدوا عليه آباءهم فكان ذلك محل الإنكار عندهم لأن تغيير ذلك يحسبونه إفساداً { قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } [ الأعراف : 127 ] . والإتيان بحرف ( على ) للدلالة على تمكن آبائهم من تلك الأحوال وملازمتهم لها .

وعطف { وتكون لكما الكبرياء } على الفعل المعلَّل به ، والمعطوف هو العلة في المعنى لأنهم أرادوا أنهم تفطنوا لغرض موسى وهارون في مجيئهما إليهم بما جاءوا به ، أي أنهما يحاولان نفعاً لأنفسهما لا صلاحاً للمدعوين ، وذلك النفع هو الاستحواذ على سيادة مصر بالحيلة .

والكبرياء : العظمة وإظهار التفوق على الناس .

والأرض : هي المعهودة بينهم ، وهي أرض مصر ، كقوله : { يريد أن يخرجكم من أرضكم } [ الأعراف : 110 ] . ولما كانوا ظنوا تطلبهما للسيادة أتوا في خطاب موسى بضمير المثنى المخاطب لأن هارون كان حاضراً فالتفتوا عن خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين . وإنَّما شرّكوا هارون في هذا الظن من حيث إنه جاء مع موسى ولم يباشر الدعوة فظنوا أنه جاء معه لينال من سيادة أخيه حظاً لنفسه .

وجملة : { وما نحن لكما بمؤمنين } عطف على جملة : { أجئتنا } . وهي في قوة النتيجة لتلك الجملة بما معها من العلة ، أي لما تبين مقصدكما فما نحن لكما بمؤمنين . وتقديم { لكما } على متعلَّقه لأن المخاطبين هما الأهم من جملة النفي لأن انتفاء إيمانهم في زعمهم كان لأجل موسى وهارون إذ توهموهما متطلبي نفع لأنفسهما . فالمراد من ضمير التثنية ذاتاهما باعتبار ما انطويا عليه من قصد إبطال دين آباء القبط والاستيلاء على سيادة بلادهم .

وصيغت جملة : { وما نحن لكما بمؤمنين } اسمية دون أن يقولوا وما نؤمن لكُما لإفادة الثبات والدوام وأن انتفاء إيمانهم بهما متقرر متمكن لا طماعية لأحد في ضده .