اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

قوله : " قَالُوا " يعني : فرعون وقومه ، " أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا " اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء ، أي : أجِئْتَ لهذا الغرضِ ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة ، واللَّفتُ : الليُّ والصَّرْفُ ، لفته عن كذا ، أي : صرفه ولواه عنه ، وقال الأزهري{[18557]} : " لفَتَ الشَّيء وفتلهُ " : لواه ، وهذا من المقلوب .

قال شهاب الدِّين : " ولا يُدَّعى فيه قلبٌ ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر ، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما ، ومطاوعُ لَفَتَ : التفَت ، وقيل : انْفَتَلَ ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع " فَتَل " عن مطاوع لَفَتَ ، وامرأة لفُوت ، أي : تَلْتفتُ لولدها عن زوجها ، إذا كان الولد لغيره ، واللَّفيتةُ : ما يغلظُ من القصيدة " والمعنى : أنَّهم قالوا : لا نترك الذي نحن عليه ؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه ، فتمسكُوا بالتقليد ، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار .

قوله : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض } الكبرياء : اسمُ " كان " ، و " لكم " : الخبر ، و " في الأرض " : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه :

أحدها : أن تكون متعلقة بنفس الكبرياء .

الثاني : أن يتعلق بنفس " تكون " .

الثالث : أن يتعلَّق بالاستقرار في " لكم " لوقوعه خبراً .

الرابع : أن يكون حالاً من " الكبرياء " .

الخامس : أن يكون حالاً من الضَّمير في " لَكُمَا " لتحمُّلِه إيَّاهُ " . والكبرياء مصدرٌ على وزن " فِعْلِيَاء " ، ومعناها : العظيمة ؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ : [ الخفيف ]

سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِي *** يه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ{[18558]}

وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير : [ الخفيف ]

مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه *** جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ{[18559]}

يعني : هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم .

والجمهور على " تكون " بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ .

وقرأ ابن مسعود{[18560]} ، والحسن ، وإسماعيل وأبو عمرو ، وعاصم - رضي الله عنهم - في روايةٍ : " يكون " بالياء من تحت ؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ .

قال المفسِّرون : والمعنى : ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر ، والخطابُ لموسى ، وهارون - عليهما الصلاة والسلام - .

قال الزَّجَّاج : سمى الملك كبرياء ؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وأيضاً : فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه ، صارت مقاليدُ أرم أمته إليه ؛ فصار أكبر القوم .

واعلم : أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم ، وهما : التَّقليد ، والحرصُ على طلب الرِّياسة ، صرَّحُوا بالحكم ، فقالوا : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عليه الصلاة والسلام - بأنواعٍ من السحر ؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر ، فقال فرعون : { ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } .


[18557]:ينظر: تهذيب اللغة 14/285.
[18558]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/181، وتفسير الطبري 15/158 والدر المصون 4/58.
[18559]:ينظر البيت في ديوانه (91) برواية: ملكه ملك قوة ليس فيه *** جبروت ولا به كبرياء ينظر: الشعر والشعراء 1/524 والبحر المحيط 5/181 والخزانة 3/269 والكشاف 2/362 والدر المصون 4/58.
[18560]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/118، الكشاف 2/362، المحرر الوجيز 3/135، الدر المصون 4/58.