معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (30)

قوله تعالى : { وقال نسوة في المدينة } الآية . يقول : شاع أمر يوسف والمرأة في المدينة مدينة مصر . وقيل : مدينه عين الشمس ، وتحدث النساء بذلك وقلن - وهن خمس نسوة : امرأة حاجب الملك ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة الخباز ، وامرأة الساقي ، وامرأة صاحب السجن ، قاله مقاتل . وقيل : هن نسوة من أشراف مصر : { امرأة العزيز تراود فتاها } ، أي : عبدها الكنعاني ، { عن نفسه } ، أي : تطلب من عبدها الفاحشة ، { قد شغفها حباً } ، أي : علقها حبا . قال الكلبي : حجب حبه قلبها حتى لا تفعل سواه . وقيل : أحبته حتى دخلها حبه شغاف قلبها ، أي : داخل قلبها . وقال السدي : الشغاف جلدة رقيقة على القلب ، يقول : دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب . وقرأ الشعبي و الأعرج : { شغفها } بالعين غير المعجمة ، معناه : ذهب الحب بها كل مذهب . ومنه شغف الجبال وهو رؤوسها . { إنا لنراك في ضلال مبين } ، أي : خطأ ظاهر . وقيل : معناه إنها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (30)

ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها . ومضت الأمور في طريقها . فهكذا تمضي الأمور في القصور !

ولكن للقصور جدرانا ، وفيها خدم وحشم . وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورا . وبخاصة في الوسط الأرستقراطي ، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن . وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات :

( وقال نسوة في المدينة : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه . قد شغفها حبا . إنا لنراها في ضلال مبين ) . .

وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون . ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز ، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر - أي كبير وزرائها - ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة :

( امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ) . .

ثم بيان لحالها معه :

( قد شغفها حبا ) . .

فهي مفتونة به ، بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه ، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق :

إنا لنراها في ضلال مبين . .

وهي السيدة الكبيرة وزوجة الكبير ، تفتتن بفتاها العبراني المشترى . أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها ، وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار ؟ !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (30)

يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة ، وهي مصر ، حتى تحدث الناس به ، { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ } مثل نساء الأمراء [ و ]{[15144]} الكبراء ، ينكرن على امرأة العزيز ، وهو الوزير ، ويعبن ذلك عليها : { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي : تحاول غلامها عن نفسه ، وتدعوه إلى نفسها ، { قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } أي قد : وصل حبه إلى شغاف قلبها . وهو غلافه .

قال الضحاك عن ابن عباس : الشَّغَف : الحب القاتل ، والشَّغَف دون ذلك ، والشغاف : حجاب القلب .

{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : في صنيعها هذا من حبها فتاها ، ومراودتها إياه عن نفسه .


[15144]:- زيادة من ت ، أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (30)

ذكر الفعل المسند إلى «النسوة » لتذكير اسم الجمع و { نسوة } جمع قلة لا واحد له من لفظه ، وجمع التكثير نساء ، و { نسوة } فعلة ، وهو أحد الأبنية الأربعة التي هي لأدنى العدد ، وقد نظمها القائل ببيت شعر : [ البسيط ]

بأفعل وبأفعال وأفعلة*** وفعلة يعرف الأدنى من العدد{[6649]}

ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعاً : امرأة خبازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة بوابة ، وامرأة سجانة . و { العزيز } : الملك ومنه قول الشاعر : [ الرمل ]

درة غاص عليها تاجر*** جلبت عند عزيز يوم طل{[6650]}

و «الفتى » الغلام ، وعرفه في المملوك - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ، وليقل فتاي وفتاتي »{[6651]} ، ولكنه قد يقال في غير المملوك ، ومنه { إذ قال موسى لفتاه }{[6652]} وأصل «الفتى » في اللغة الشاب ، ولكن لما كان جل الخدمة شباباً استعير لهم اسم الفتى . و { شغفها } معناه : بلغ حتى صار من قلبها موضع الشغاف ، وهو على أكثر القول غلاف من أغشية القلب ، وقيل : «الشغاف » : سويداء القلب ، وقيل : الشغاف : داء يصل إلى القلب{[6653]} .

وقرأ أبو رجاء والأعرج وعلي بن أبي طالب والحسن بخلاف ويحيى بن يعمر وقتادة بخلاف وثابت وعوف ومجاهد وغيرهم : «قد شغفها » بالعين غير منقوطة ، ولذلك وجهان :

أحدهما أنه علا بها كل مرقبة من الحب ، وذهب بها كل مذهب ، فهو مأخوذ - على هذا - من شعف الجبال وهي رؤوسها وأعاليها ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن »{[6654]} .

والوجه الآخر أن يكون الشعف لذة بحرقة يوجد من الجراحات والجرب ونحوها ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

أيقتلني وقد شعفت فؤادها*** كما شَعَفَ المهنوءةَ الرجلُ الطالي{[6655]}

والمشعوف في اللغة الذي أحرق الحب قلبه ، ومنه قول الأعشى :

تعصي الوشاة وكان الحب آونة*** مما يزين للمشعوف ما صنعا{[6656]}

وروي عن ثابت البناني{[6657]} وأبي رجاء أنهما قرآ : «قد شعِفعما » بكسر العين غير منقوطة . قال أبو حاتم : المعروف فتح العين وهذا قد قرىء به . وقرأ ابن محيصن : { قد شغفها } أدغم الدال في الشين .

وروي أن مقالة هؤلاء النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها أو يحق لومها . وقد قال ابن زيد الشغف في الحب والشغف في البغض ، وقال الشعبي : الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب والشغف : الجنونن والمشغوف : المجنون ، وهذان القولان ضعيفان .


[6649]:ومثل هذا القول ابن مالك في ألفيته المشهورة: أفعله أفعل ثم فعلــــــــه ثمت أفعال جمــــــوع قلة
[6650]:هذا البيت لأبي دؤاد الإيادي، والمؤلف يستشهد به على أن العزيز بمعنى الملك، ولم نجد في كتب اللغة ما يؤيد ذلك، وفي المجاز متسع لاستعمال العزيز بمعنى الملك . وطل دمه: أهدر تستعمل مبنية للمعلوم ولكن استعمالها مبنية للمجهول أكثر وأشهر، يقال: طل وركز في وصفه على الصورة والإيقاع الموسيقي أكثر من تركيزه على اللفظة المباشرة. مات بعد امرئ القيس.
[6651]:أخرجه البخاري في العتق، ومسلم في الألفاظ، وأبو داود في الآداب، والإمام أحمد في أماكن كثيرة من مسنده، ولفظه كما في البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم أطعم ربك، وضىء ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي).
[6652]:من الآية (60) من سورة (الكهف).
[6653]:ويكون حينئذ بالضم على وزن (فعال) لأنه داء مثل: سعال وزكام، قال النابغة: وقد حال هم دون ذلك والج مكان الشغاف تبتغيه الأصابع.
[6654]:أخرجه البخاري في الإيمان والفتن وغيرهما، وأبو داود في الفتن، والنسائي في الإيمان، وابن ماجه في الفتن، والموطأ في الاستئذان، والإمام أحمد في مسنده (3-6 ، 30 ، 43 ، 57) .
[6655]:الرواية المشهورة "أيقتلني" بالياء، و "شغفت" بالغين المنقوطة، ومعناها: بلغ حبي شغاف قلبها، والمهنوءة: الناقة التي تطلى بالقطران لإصابتها بالجرب. ويروى البيت بالعين كما في اللسان، والمعنى: إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها المحب، كما أن الناقة التي تطلى بالقطران علاجا لها من الجرب تجد لذة مع حرقة، وقبل البيت أبيات يتحدث فيها الشاعر عن محبوبته وبعلها، قال: وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فدلت صعبة أي إذلال فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها عليه القتام سيء الظن والبــال إلى أن يقول: أيقتلني وقد أحرقت فؤادها بحبي حرقة تجد فيها كل اللذة والمتعة؟
[6656]:ال الأعشى هذا البيت من قصيدته المشهورة التي يمدح بها هوزة بن علي الحنفي، والتي مطلعها: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعــــا واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا و الرواية في الديوان بالغين المنقوطة.
[6657]:هو ثابت بن أسلم أبو محمد البناني المصري، وردت عنه الرواية في حروف القرآن الكريم، وتوفي سنة 127 (طبقات ابن الجزري 1-188)، ولم يشر ابن جني إلى القراءة بكسر العين، بل جعل قراءة ثابت البناني مثل قراءة الجماعة الكثيرة المذكورة قبله بفتح العين، وهذا هو معنى قول أبي حاتم: المعروف فتح العين ، وقد قرى به.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (30)

النسوة : اسم جمع امرأة لا مفرد له ، وهو اسم جمع قِلة مثله نساء . وتقدم في قوله تعالى : { ونساءَنا ونساءَكم } في سورة آل عمران ( 61 ) .

وقوله : { في المدينة } صفة لنسوة . والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كنّ متفرقات في ديار من المدينة . وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة ( مَنْفِيسْ ) حيث كان قصر العزيز ، فنقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزيز . وقيل : إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها فأفشينه كأنّها أرادت التشاور معهن ، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن ( ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره ) . وهذا الذي يقتضيه قوله : { وأعْتَدت لهن متكئاً } [ سورة يوسف : 31 ] وقوله : { ولئن لم يفعل } [ سورة يوسف : 32 ] .

والفتى : الذي في سنّ الشباب ، ويكنى به عن المملوك وعن الخادم كما يكنى بالغلام والجارية وهو المراد هنا . وإضافته إلى ضمير امرأة العزيز } لأنه غلام زوجها فهو غلام لها بالتبع ما دامت زوجة لمالكه .

وشَغَف : فعل مشتق من اسم جامد ، وهو الشِغاف بكسر الشين المعجمة وهو غلاف القلب . وهذا الفعل مثل كَبَدهُ ورآهُ وجَبَهه ، إذا أصاب كَبده ورئته وجَبهته .

والضمير المستتر في { شغفها } ل { فتاها } . ولما فيه من الإجمال جيء بالتمييز للنسبة بقوله : { حبّا } . وأصله شغفها حبه ، أي أصاب حبه شغافها ، أي اخترق الشغاف فبلغ القلب ، كناية عن التمكن .

وتذكير الفعل في { وقال نسوة } لأن الفعل المسند إلى ألفاظ الجموع غير الجمع المذكر السالِم يجوز تجريده من التاء باعتبار الجمع ، وقرنه بالتاء باعتبار الجماعة مثل { وجاءت سيارة } [ سورة يوسف : 19 ] .

وأما الهاء التي في آخر { نسوة } فليست علامة تأنيث بل هي هاء فِعلة جمع تكسير ، مثل صبية وغلمة .

وقد تقدم وجه تسمية الذي اشترى يوسف عليه السّلام باسم العزيز عند قوله تعالى : { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته } [ سورة يوسف : 21 ] . وتقدم ذكر اسمه واسمها في العربية وفي العبرانية .

ومجيء تراود } بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت لقصد استحضار الحالة العجيبة لقصد الإنكار عليها في أنفسهن ولومها على صنيعها . ونظيره في استحضار الحالة قوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ سورة هود : 74 ] .

وجملة قد شغفها حباً } في موضع التعليل لجملة { تراود فتاها } .

وجملة { إنا لنراها في ضلال مبين } استئناف ابتدائي لإظهار اللوم والإنكار عليها . والتأكيد ب ( إنّ ) واللام لتحقيق اعتقادهِن ذلك ، وإبعاداً لتهمتهن بأنهن يحسدنها على ذلك الفتى .

والضلال هنا : مخالفة طريق الصواب ، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى ، وليس المراد الضلال الديني . وهذا كقوله تعالى آنفاً : { إن أبانا لفي ضلال مبين } [ سورة يوسف : 8 ] .