إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (30)

{ وَقَالَ نِسْوَةٌ } أي جماعةٌ من النساء وكنّ خمساً : امرأةُ الساقي وامرأةُ الخبّاز وامرأةُ صاحب الدوابِّ وامرأةُ صاحبِ السجنِ وامرأةُ الحاجب ، والنسوةُ اسمٌ مفردٌ لجمع المرأةِ وتأنيثُه غير حقيقي كتأنيث اللُّمَة وهي اسمٌ لجماعة النساء والثُبَة وهي اسم لجماعة الرجال ، ولذلك لم يلحَق فعلَه تاءُ التأنيث { في المدينة } ظرفٌ لقال أي أشعْن الأمرَ في مصر أو صفةٌ النسوة { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ } أي الملك ، يُرِدْن قطفير ، وإضافتُهن لها إليه بذلك العنوانِ دون أن يصرِّحن باسمها أو اسمِه ليست لقصد المبالغةِ في إشاعة الخبر بحكم أن النفوسَ إلى سماع أخبارِ ذوي الأخطارِ أميلُ كما قيل ، إذ ليس مرادُهن تفضيحَ العزيز بل هي لقصد الإشباعِ في لومها بقولهن : { تُرَاوِدُ فتاها } أي تطالبه بمواقعته لها وتتحمل في ذلك وتخادعه { عَن نَفْسِهِ } وقيل : تطلب منه الفاحشة ، وإيثارُهن لصيغة المضارع للدلالة على دوام المراودةِ والفتى من الناس الشابُّ وأصله فتيٌ لقولهم : فتيان والفتوة شاذة وجمعه فتية وفتيان ويستعار للمملوك وهو المراد هاهنا وفي الحديث : «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي » ، وتعبيرُهن عن يوسف عليه السلام بذلك مضافاً إليها لا إلى العزيز الذي لا تستلزم الإضافةُ إليه الهوان بل ربما يشعر بنوع عزةٍ لإبانة ما بينهما من التبايُن البيِّن الناشىءِ عن المالكية والمملوكية ، وكلُّ ذلك لتربية ما مر من المبالغة والإشباعِ في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوجٌ دنيءٌ قد تُعذر في مراودة الأخدان لاسيما إذا كان فيهم علوُّ الجناب ، وأما التي لها زوجٌ وأيُّ زوج ، عزيزُ مصرَ فمراودتُها لغيره لاسيما لعبدها الذي لا كفاءةَ بينها وبينه أصلاً وتماديها في ذلك غايةُ الغي ونهايةُ الضلال .

{ قَدْ شَغَفَهَا حُبّا } أي شق حبُّه شَغافَ قلبها وهو حجابُه أو جلدةٌ رقيقةٌ يقال لها لسانُ القلبِ حتى وصل إلى فؤادها ، وقرىء شعَفها بالعين من شعف البعيرَ إذا هنَأَه فأحرقه بالقطِران . وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما الشغَفُ الحبُّ القاتل والشعف حبٌّ دون ذلك ، وكان الشعبي يقول : الشغفُ حبٌّ والشعفُ جنون والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حال من فاعل تُراود أو من مفعوله ، وأياً ما كان فهو تكريرٌ لِلّوم وتأكيدٌ للعذْل ببيان اختلالِ أحوالِها القلبية كأحوالها القالَبية ، وجعلُها تعليلاً لدوام المراودةِ من حيث الإنية مصيرٌ إلى الاستدلال على الأجلي بالأخفى ، ومن حيث اللُمية ميلٌ إلى تمهيد العذر من قِبلها ولسْن بذلك المقام ، وانتصابُ حباً على التمييز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبُّه كما أشير إليه { إِنَّا لَنَرَاهَا } أي نعلمها علماً متاخماً للمشاهدة والعِيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفْرِطة مستقرةً { في ضلال } عن طريق الرشد والصوابِ أو عن سنن العقل { مبِينٌ } واضح لا يخفى كونُه ضلالاً على أحد أو مُظهرٍ لأمرها بين الناس ، فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيلٌ عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم ، وإنما لم يقُلن إنها لفي ضلال مبين إشعاراً بأن ذلك الحكمَ غيرُ صادر عنهن مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزّهاتٌ عن أمثال ما هي عليه .