اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (30)

قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة } الآية ، النسوة فيها أقوالٌ :

[ أشهرها ] : أنه جمعُ تكسير للقلَّة ، على فعلة ؛ كالصبية والغلمة ، ونصَّ بعضهم على عدم أطَّرادها ، وليس لها واحدٌ من لفظها .

الثاني : أنها اسمٌ مفردٌ ، لجمع المرأة قاله الزمخشريُّ .

الثالث : أنَّها اسم جمعٍ ؛ قاله أبو بكرٍ بنُ السَّراج رحمه الله ، وكذلك أخواتها ، كالصِّبيةِ ، والفِتْيَةِ .

وقيل : على كُلِّ قولٍ ، فتأنيثها غير حقيقي ، باعتبارِ الجماعةِ ؛ ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث .

وقال الواحديُّ : تقديمُ الفعل يدعُو إلى إسقاطِ علامِ التأنيثِ ، على قياس إسقاط علامة التَّثنية ، والجمع .

والمشهورُ : كسر نونها ، ويجوز ضمُّها في لغةٍ ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة ، قال القرطبي : وهي قراءة الأعمش ، والمفضل والسلمي .

وإذا ضُمَّتْ نونه ، كان اسم جمع بلا خلافٍ ، ويكسَّرُ في الكثرة على نسوانٍ ، والنساءُ : جمعٌ كثرةٍ أيضاً ، ولا واحداَ لَهُ مِنْ لفظه ، كذا قالهُ أبو حيَّان .

ومقتضى ذلك ألاَّ يكون النساءُ جمعاً لنسوةٍ ؛ لقوله : لا واحِدَ له من لفظه .

و " فِي المَدينَةِ " يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ ، صفةٍ ل " نِسْوةٌ " ، وهو ظاهرٌ ، ويقال : ليس بظاهرٍ .

فصل في عدد النسوة

في : إنَّهن خمسُ : امرأة حاجب الملك ، وامرأةُ صاحب دوابه ، وامرأةُ الخازن ، وامرأة السَّاقي ، وامرأة صاحب السِّجن ، قاله مقاتل .

وقال الكلبيُّ : أربعٌ ؛ فأسقط امرأة الحاجب . والأشبه أنَّ تلك الواقعة شاعت في البلد ، واشتهرت ، وتحدث بها النساء ، والمراد بالمدينة : مِصْرُ ، وقيل : مدينة عَين شَمْسٍ .

قوله : " تُروادُِ " خبرُ " امْرأةُ العَزيزِ " ، وجيءَ بالمضارع ، تنبيهاً على أنَّ المراودة صارت سجيةً لها ، ودَيْدناً ، دون الماضي فلم يقلْ : رَاودتْ ، ولامُ الفتى ياءٌ ؛ لقولهم : الفتيان ، وفتى ، وعلى هذا ؛ فقولهم : الفُتُوَّة في المصدر شاذٌّ .

قال : " فَتَاهَا " ، وهو فتى زوجها ؛ لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك ، وكان ينفذُ أمرها فيه .

وروى مقاتلٌ ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : " إنَّ امرأة العزيز استوهبتْ يوسف من زوجها ، فوهبهُ لها ، وقال : ما تصنعين به ؟ قالت : اتخذه ولداً ، قال : هو لك ؛ فربَّتُهُ حتى [ أيفع ] ، وفي نفسها منه ما في نفسها ، فكانت تتكشَّلإ له ، وتتزيَّن ، وتدعوه من وجه اللُّطفِ ؛ فعصمه الله " .

قوله : { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } ، وهذه الجملة يجوز أن تكمون خبراً ثانياً ، وأن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً ؛ إمَّا من فاعل " تُرَاوِدُ " ، وإمَّا من مفعوله ، و " حُبًّا " تمييزٌ ؛ وهو منقولٌ من الفاعليَّة ، وإذ الأصل : قد شغفها حبُّه .

والعامةُ على " شَغَفَهَا " بالغين المعجمة المفتوحمةِ ، بمعنى : خَرقَ شِغافَ قلبها ، وهو مأخوذٌ من الشِّغاف ، والشِّغاف : حجابُ القلب ، جليدةٌ رقيقةٌ ، وقيل : سويداءُ القلبِ .

فعلى الأول ، يقال : شَغفتُ فلاناً ، إذا أصبت شِغفافهُ ؛ كما تقولُ : كبدتهُ إذا أصبتَ كبدَه ، فمعنى : " شَغَفَهَا حُبّاً " أي : خرق الحبُّ الجلدَ ؛ حتَّى أصاب القلب ، أي : أنَّ حبَّه أحاط بقلبها ، مثل إحاطةِ الشِّغاف بالقلبِ ، ومعنى إحاطة ذلك الحبِّ بقلبها : هو أنَّ اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها ، وبين كلِّ ما سوى هذه المحبَّة ، فلا يخطر ببالها سواه ، وإن قلنا : إنَّ الشِّغافُ سويداء القلبِ ، فالمعنى : أنَّ حبُّهُ وصل إلى سويداءِ قلبها .

وقيل : الشِّغافُ داء يصلُ إلى القلب مِنْ أجل الحبِّ ، وقيل : جليدةٌ رقيقةٌ يقال لها : لسانُ القلبِن ليست محيطةً به .

ومعنى : " شَغَفَ قلبَهُ " أي : خرق حجابهُ ، إذا أصابه ؛ فأحرقه بحرارةِ الحبِّ ، وهو من شغف البعير بالهِناءِ ، إذا طلاهُ بالقطرانِ ، فأحرقهُ . [ والمشغوف من وصل الحب لقلبه ] قال الأعشى : [ البسيط ]

3079 يَعْصِي الوُشَاةَ وكَانَ الحُبُّ آونَةٌ *** مِمَّا يُزَّينُ للمَشْغُوفِ ما صَنَعَا

وقال النابغةُ الذبيانيُّ : [ الطويل ]

3080 وقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذلِكَ والِجٌ *** مَكَانَ الشِّغافِ تَبْتغيِهِ الأصَابعُِ

وقرأ ثابت البناني : بكسر الغين ، وقيل : هي لغة تميم ، وقرأ أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعليُّ بن الحسين ، وابنه محمدٌ ، وابنه جعفر والشعبي ، وقتادة رضي الله عنهم بتفحِ العين المهملةِ .

وروي عن ثابت البناني ، وأبي رجاء : كسر العين المهملة أيضاً ، واختلف الناسُ في ذلك : فقيل : هو من شغف البعير ، إذا هنأهُ ، فأحرقه بالطقرانِ ، قاله الزمخشريُّ ؛ وأنشد : [ الطويل ]

3081 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي

وهذا البيتُ لامرىء القيس : [ الطويل ]

3082 أتَقْتُلنِي وقدْ شَعَفْتُ فُؤادهَا *** كَما شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي

والناسُ إنما يروونهُ بالمعجمة ، ويسفرونه بأنه أصاب حبُّه شغاف قلبها ، أي : أحرقَ حجابهُ ، وهي جليدةٌ رقيقةٌ دونه ، كما شغف ، أي : كما أحرق ، وأراد بالمَهْنُوءةِ : المطليَّة بالهناءِ ، أي : القطران ، ولا ينشدونه بالمهملة ، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى ؛ فقال : " الشَّغف : إحراقُ الحُبِّ للقلب مع لذة يجدها ؛ كما أنَّ البعير إذا طُلِيَ بالقطرانِ ، بلغ منه مثل ذلك ، ثم يَسْتَرْوحُ إليه " .

وقال أبو البقاء رحمه الله لما حكى هذه القراءة : " مِن قولِكَ : فلانٌ مشغوفٌ بكذا ، أي : مغرمٌ به " .

وقال ابنُ الأنباريِّ : " الشَّغفُ : رُءوسُ الجبالِ ، ومعنى شغف بفلانٍ : إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ " .

وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ ، وفرق بعضهم بينهمان فقال ابنُ زيدٍ : " الشَّغفُ يعني بالمعجمة في الحبِّ ، والشعف : في البغضِ " .

وقال الشعبيُّ : الشَّغَفُ ، والمشغوفُ بالغينِ منقوطة في الحبِّ ، والشَّعفُ : الجنونُ ، والمَشْعُوفُ : المَجنْونُ " .

قوله : { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، أي : خطأ مبين ظاهر ، وقيل : معناه : إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر .