التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (30)

ثم حكت السورة الكريمة بعد ذلك ما قالته بعض النساء ، بعد ان شاع خبر امرأة العزيز مع فتاها ، وما فعلته معهن من أفعال تدل على شدة مكرها ودهائها ، وما قاله يوسف - عليه السلام - بعد أن سمع من تهديدهن وإغرائهن . . قال - تعالى - :

{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز . . . } .

قوله - سبحانه - { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ . . } حكاية لما تناقلته الألسنة عن امرأة العزيز ، فقد جرت العادة بين النساء ، أن يتحدثن عن أمثال هذه الأمور في مجالسهن ، ولا يكتمنها خصوصا إذا كانت صاحبة الحادثة من نساء الطبقة المرموقة . . كامرأة العزيز .

والنسوة : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومفرده حيث المعنى : امرأة .

والمراد بالمدينة : مدينة مصر التي كان يعيش فيها العزيز زوجته والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لنسوة .

أى : وقال نسوة من نساء مدينة مصر - على سبيل النقد والتشهير والتعجب - إن امرأة العزيز ، صاحبة المكانة العالية ، والمنزلة الرفيعة ، بلغ بها الحال في انقيادها لهواها ، وفى خروجها عن طريق العفة . . أنها تراود فتاها عن نفسه ، أى : تطلب منه مواقعتها ، وتتخذ لبلوغ غرضها شتى الوسائل والحيل .

ولم يبين لنا القرآن الكريم عدد هؤلاء النسوة ولا صفاتهم ، لأنه لا يتعلق بذلك غرض نافع ، ولأن الذي يهدف إليه القرآن الكريم هو بيان ما حدث بين يوسف وامرأة العزيز ، قد شاع أمره بين عدد من النساء في مدينة كبيرة كمصر وفى وصفها بأنها { امرأة العزيز } زيادة في التشهير بها . فقد جرت العادة بين الناس ، بأن ما يتعلق بأصحاب المناصب الرفيعة من أحداث ، يكون أكثر انتشارا بينهم ، وأشد في النقد والتجريح .

والتعبير بالمضارع في قوله - سبحانه - { تُرَاوِدُ } يشعر بأنها كانت مستمرة على ذلك ، دون أن يمنعها منه افتضاح أمرها ، وقول زوجها لها { واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين }

والمراد بفتاها يوسف - عليه السلام - ووصفْتَه بذلك لأنه كان في خدمتها ، والمبالغة في رميها بسوء السلوك ، حيث بلغ بها الحال في احتقار نفسها ، أن تكون مراودة لشخص هو خادم لها . .

وجملة { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } بيان لحالها معه ، وهى في محل نصل حال من فاعل تراود أو من مفعوله والمقصود بها تكرير لومها ، وتأكيد انقيادها لشهواتها .

وشغف مأخوذ من الشغاف - بكسر الشين - وهو غلاف القلب ، أو سويداؤه أو حجابه ، يقال : شغف الهوىو قلب فلان شغفا ، أى بلغ شغافه .

والمراد أن حبها إياه قد شق شغاف قلبها . وتمكن منه تمكنا لا مزيد عليه و " حبا " تمييز محول عن الفاعل ، والأصل : شغفها حبها إياه .

وجملة { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } مقررة لمضمون ما قبلها من لوم امرأة العزيز ، وتحقير سلوكها ، والمراد بالضلال : مخالفة طريق الصواب .

أى : إنا لنرى هذه المرأة بعين بصيرتنا ، وصادق علمنا . في خطأ عظيم واضح بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، لأنها - وهى المرأة المرموقة وزوجة الرجل الكبير - تراود خادمها عن نفسه .

والتعبير " بإنا لنراها . . " للإِشعار بأن حكمهن عليها بالضلال ليس عن جهل ، وإنما هو عن علم ورورية ، مع التلويح بأنهن يتنزهن عن مثل هذا الضلال المبين الصادر عنها .

قال صاحب المنار : " وهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر ، وكرها للرذيلة ، ولا حبا في المعروف ، ونصرا للفضيلة ، وإنما قلنه مكرا وحيلة ، ليصل إليها قولهن فيحملها على دعوتهن ، وإراءتهن بأعين أبصارهن ، ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن ، فيعذرنها فيما عذلنها عليه فهو مكر لا رأى " .