معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم } . كان في ابتداء الإسلام ، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال المشركين ، ثم لما هاجر إلى المدينة أمره بقتال من قاتله منهم بهذه الآية ، وقال الربيع بن أنس : هذه أول آية نزلت في القتال ، ثم أمره بقتال المشركين كافة ، قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله ( فاقتلوا المشركين ) فصارت هذه الآية منسوخة بها ، وقيل : نسخ بقوله ( اقتلوا المشركين ) قريب من سبعين آية .

قوله تعالى : { ولا تعتدوا } . أي لا تبدؤوهم بالقتال وقيل : هذه الآية محكمة غير منسوخة ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المقاتلين ومعنى قوله : ( ولا تعتدوا ) أي لا تقتلوا النساء ، والصبيان والشيخ الكبير ، والرهبان ولا من ألقى إليكم السلام هذا قول ابن عباس ومجاهد .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو بكر بن سهل القهستاني المعروف بأبي تراب ، أخبرنا محمد بن عيسى الطوسي ، أنا يحيى بن بكير ، أنا الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن شعبة عن علقمة ابن يزيد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشاً قال : اغزوا بسم الله ، وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغلوا ولا تعتدوا ولا تقتلوا امرأة ، ولا وليداً ولا شيخاً كبيراً . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه للعمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة ، فساروا حتى نزلوا الحديبية ، فصدهم المشركون عن البيت الحرام ، فصالحهم على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا له مكة العام القابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ، فلما كان العام القابل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي قريش بما قالوا ، وأن يصدوهم عن البيت الحرام ، وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام ، وفي الحرم فأنزل الله تعالى ( وقاتلوا في سبيل الله ) يعني محرمين ( الذين يقاتلونكم ) يعني قريشاً ( ولا تعتدوا ) فتبدؤوا بالقتال في الحرم محرمين .

قوله تعالى : { إن الله لا يحب المعتدين } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

189

بعد ذلك يجيء بيان عن القتال بصفة عامة ، وعن القتال عند المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم بصفة خاصة ، كما تجيء الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله ، وهي مرتبطة بالجهاد كل الارتباط :

( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم . والفتنة أشد من القتل . ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ، كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ؛ فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين . الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين . وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) . .

ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال . نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا . وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم ، وللتمكين لهم في الأرض ، كما وعدهم الله في آيات سورة الحج : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ) . .

ومن ثم كانوا يعرفون لم أذن لهم بأنهم ظلموا ، وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم ، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة ، وقيل لهم : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله . . نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى .

وأول ما نراه من أسباب هذا الكف ، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالا للأمر ، وخضوعا للقيادة ، وانتظارا للإذن . وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة ، يستجيبون لأول ناعق ، ولا يصبرون على الضيم . . وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية ، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر ، وتطاع فيما تقدر وتدبر ، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع . . ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته ، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته ، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة ؛ وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله [ ص ] وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي ، والحماسة والتدبر ، والحمية والطاعة . . في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم . .

والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة . . هو أن البيئة العربية ، كانت بيئة نخوة ونجدة . وقد كان صبر المسلمين على الأذى ، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين ، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام ؛ وقد حدث بالفعل عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب ، كي يتخلوا عن حماية الرسول [ ص ] أنه عندما اشتد الاضطهاد لبني هاشم ، ثارت نفوس نجدة ونخوة ، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة . وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة ، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة .

ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حربا دموية داخل البيوت . فقد كان المسلمون حينذاك فروعا من البيوت . وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم ؛ ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام . ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك ، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت ، وأن يقع دم في كل أسرة . . مما كان يجعل الإسلام - في نظر البيئة العربية - يبدو دعوة تفتت البيوت ، وتشعل النار فيها من داخلها . . فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة ، تواجه سلطة أخرى في مكة ، تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها . . وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة ، بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته .

هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى . وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة ، وهم محصورون في مكة ، وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين ، في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة . فشاء الله أن يكثروا ، وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة ، ثم أذن لهم بعد هذا في القتال . .

وعلى أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة [ ثم خارج الجزيرة ] . وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين . معسكر الإسلام ومعسكر الشرك . وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام ، ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلا يسيرا في سورة براءة .

ولعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام ، تصلح أساسا لتفسير آيات القتال هنا ، وفي المواضع القرآنية الأخرى ، قبل مواجهة النصوص القرآنية في هذا الموضع بصفة خاصة :

لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الأخيرة التي جاء بها الإسلام ؛ لتكون قاعدة للحياة البشرية في الأرض من بعدها ، ولتكون منهجا عاما للبشرية جميعها ؛ ولتقوم الأمة المسلمة بقيادة البشرية في طريق الله وفق هذا المنهج ، المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله ولغاية الوجود الإنساني ، كما أوضحهما القرآن الكريم ، المنزل من عند الله . قيادتها إلى هذا الخير الذي لا خير غيره في مناهج الجاهلية جميعا ، ورفعها إلى هذا المستوى الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا المنهج ، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة ، والتي تفقد البشرية كل نجاح وكل فلاح حين تحرم منها ، ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير ، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والنظافة والسعادة والكمال .

ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل ، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال .

ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحرارا في اعتناق هذا الدين ؛ لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة . فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان ، لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها . وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان ؛ وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان . .

فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة . لا بالأذى ولا بالإغراء . ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة . وكان من واجب الجماعة المسلمة أن تدفع عنهم بالقوة من يتعرض لهم بالأذى والفتنة . ضمانا لحرية العقيدة ، وكفالة لأمن الذين هداهم الله ، وإقرارا لمنهج الله في الحياة ، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام .

وينشأ عن تلك الحقوق الثلاثة واجب آخر على الجماعة المسلمة ؛ وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية ، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها . وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين بالله غير ممكنة لقوة في الأرض ، ويكون الدين لله . . لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان . ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض ، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول ؛ ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه ، وأن يستجيب له ، وأن يبقى عليه . وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل الله . بأية وسيلة وبأية أداة .

وفي حدود هذه المباديء العامة كان الجهاد في الإسلام .

وكان لهذه الأهداف العليا وحدها ، غير متلبسة بأي هدف آخر ، ولا بأي شارة أخرى .

إنه الجهاد للعقيدة . لحمايتها من الحصار ؛ وحمايتها من الفتنة ؛ وحماية منهجها وشريعتها في الحياة ؛ وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء ؛ وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه .

وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام ، ويقره ويثيب عليه ؛ ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء ؛ والذين يحتملون أعباءه أولياء .

وهذه الآيات من سورة البقرة في هذا الدرس كانت تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم ، وآذوهم في دينهم ، وفتنوهم في عقيدتهم ، وهي - مع هذا - تمثل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام :

وتبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم ، وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان ، ولكن دون اعتداء :

( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين )

وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال ، والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء :

( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) . .

إنه القتال لله ، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة . القتال في سبيل الله . لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض ، ولا في سبيل المغانم والمكاسب ؛ ولا في سبيل الأسواق والخامات ؛ ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس . . إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام ، القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض ، وإقرار منهجه في الحياة ، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم ، أو أن يجرفهم الضلال والفساد ، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام ، وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام .

ومع تحديد الهدف ، تحديد المدى :

( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) . .

والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطرا على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة ، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين . . كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام ، ووضع بها حدا للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء . . تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام ، وتأباها تقوى الإسلام .

وهذه طائفة من أحاديث الرسول [ ص ] ووصايا أصحابه ، تكشف عن طبيعة هذه الآداب ، التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام :

عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله [ ص ] فنهى رسول الله [ ص ] عن قتل النساء والصبيان " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي ] .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه " . . [ أخرجه الشيخان ] .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " بعثنا رسول الله [ ص ] فقال : " إن وجدتم فلانا وفلانا [ رجلين من قريش ] فأحرقوهما بالنار " . فلما أردنا الخروج قال : " كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا ، وإن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فإن وجدتموهما فاقتلوهما " . . [ أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ] .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " أعف الناس قتلة أهل الإيمان " . . [ أخرجه أبو داود ] .

وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله [ ص ] عن النهبى والمثلة " . . [ أخرجه البخاري ] .

وعن ابن يعلى قال : غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأتى بأربعة أعلاج من العدو ، فأمر بهم فقتلوا صبرا بالنبل . فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فقال : سمعت رسول الله [ ص ] ينهى عن قتل الصبر . فوالذي نفسي بيده ، لو كانت دجاجة ما صبرتها . فبلغ ذلك عبد الرحمن ، فأعتق أربع رقاب . . [ أخرجه أبو داود ] .

وعن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه - رضي الله عنه - قال : بعثنا رسول الله [ ص ] في سرية ؛ فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي فسبقت أصحابي ؛ فتلقاني أهل الحي بالرنين . فقلت لهم : قولوا : لا إله إلا الله تحرزوا . فقالوها . فلامني أصحابي ، وقالوا : حرمتنا الغنيمة ! فلما قدمنا على رسول الله [ ص ] أخبروه بالذي صنعت . فدعاني فحسن لي ما صنعت . ثم قال لي : " إن الله تعالىقد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر " . . [ أخرجه أبو داود ]

وعن بريدة قال : كان رسول الله [ ص ] إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ، وبمن معه من المسلمين خيرا . ثم قال له : " اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا " . . [ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ] .

وروى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال في وصيته لجنده : " ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ، ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما " . .

فهذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام ؛ وهذه هي آدابه فيها ؛ وهذه هي أهدافه منها . . وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل :

( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين ) . .

وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم - فعددهم قليل - ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم - فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم - إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون الله لهم . فإذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسول الله [ ص ] فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه . ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل . . ولما فار الغضب برسول الله [ ص ] فأمر بحرق فلان وفلان [ رجلين من قريش ] عاد فنهى عن حرقهما ، لأنه لا يحرق بالنار إلا الله .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال : هذه منسوخة بقوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وفي هذا نظر ؛ لأن قوله : { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله ، أي : كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم ، كما قال : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] ؛ ولهذا قال في هذه الآية : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي : لتكن همتكم منبعثة على قتالهم ، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها ، قصاصًا .

وقد حكى عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة ، { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } الآية [ الحج : 39 ] وهو الأشهر ، وبه ورد الحديث .

وقوله : { وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المَثُلة ، والغُلُول ، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم ، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم . ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تَغُلّوا ، ولا تَغْدروا ، ولا تُمَثِّلُوا ، ولا تقتلوا وليدًا ، ولا أصحاب الصوامع " . رواه الإمام أحمد{[3385]} .

وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال : " اخرجوا بسم الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ، ولا تُمَثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع " . رواه الإمام أحمد{[3386]} .

ولأبي داود ، عن أنس مرفوعًا ، نحوه{[3387]} . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة ، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان{[3388]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا مُصعب بن سَلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ، عن رِبْعي ابن حِرَاش ، قال : سمعت حُذَيفة يقول : ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا : واحدًا ، وثلاثة ، وخمسة ، وسبعة ، وتسعة ، وأحدَ عشَرَ ، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها ، قال : " إن قومًا كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة ، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه " {[3389]} .

هذا حديث حَسَنُ الإسناد . ومعناه : أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء ، فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم ، أسخطوا الله عليهم بسبب{[3390]} هذا الاعتداء . والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا .

ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال ، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون{[3391]} عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل ؛ ولهذا قال : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } قال أبو مالك : أي : ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل .

وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ابن أنس في قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } يقول : الشرك أشد من القتل .

وقوله : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين : " إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، وإنها ساعتي هذه ، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجره ، ولا يُخْتَلى خَلاه . فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " {[3392]} .

يعني بذلك - صلوات الله وسلامه عليه - قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة ، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة ، وقيل : صلحًا ؛ لقوله : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .

[ وقد حكى القرطبي : أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ . قال قتادة : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . قال مقاتل بن حيان : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وفي هذا نظر ]{[3393]} .

وقوله : { حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يقول تعالى : لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه ، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال{[3394]} كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ] ، ، وقال : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 25 ] .


[3385]:صحيح مسلم برقم (1731) والمسند (5/352).
[3386]:المسند (1/300).
[3387]:سنن أبي داود برقم (2614).
[3388]:صحيح البخاري برقم (3015) وصحيح مسلم برقم (1744).
[3389]:المسند (5/407).
[3390]:في جـ: "لسبب".
[3391]:في جـ: "مقيمون".
[3392]:صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3393]:زيادة من جـ، أ.
[3394]:في أ: "للقتال".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 190 )

وقوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية ، هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال .

قال ابن زيد والربيع : معناها قاتلوا من قاتلكم وكفوا عمن كف عنكم ، ولا تعتدوا في قتال من لم يقاتلوكم ، وهذه الموادعة منسوخة بآية براءة( {[1776]} ) ، وبقوله : { قاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] .

وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد : معنى الآية قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم ، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبهه ، فهي محكمة على هذا القول ، وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله كالحمية وكسب الذكر( {[1777]} ) .


[1776]:- هي قوله تعالى: [فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم]، وبقوله تعالى: [وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة]، وهو من الآية 36 من سورة (التوبة) وقيل أن أول آية نزلت في الأمر بالقتال هي قوله تعالى: [أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا] والقول الأول أظهر لآن آية الإذن نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج هو وأصحابه عام الحديبية وصُدّ عن البيت وصُولح على أن يرجع إليه من السنة القابلة فلما عاد صلى الله عليه وسلم خاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم فنزلت الآية – أي: يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار.
[1777]:- يشهد لذلك حديث الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل ويقاتل حمبَّة، ويقاتل رياءً – أيُّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).