معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

قوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } . فالرفث كناية عن الجماع ، قال ابن عباس : إن الله تعالى حيي كريم يكنى كل ما ذكر في القرآن من المباشرة ، والملامسة والإفضاء والدخول والرفث . فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء ، قال أهل التفسير : كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع ، إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها ، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلى الليلة القابلة ، ثم " إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي ، هذه الخطيئة ، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيب ، فسولت لي نفسي فجامعت أهلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما كنت جديراً بذلك يا عمر " فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه . ( أحل لكم ليلة الصيام ) أي أبيح لكم ليلة الصيام ( الرفث إلى نسائكم ) .

قوله تعالى : { هن لباس لكم ) أي سكن لكم .

قوله تعالى : { وأنتم لباس لهن ) أي سكن لهن ، دليله قوله تعالى : ( وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) وقيل : لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقيل : سمي كل واحد من الزوجين لباساً ، لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه ، وقال الربيع بن أنس : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن ، قال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك وقيل : اللباس اسم لما يواري الشيء ، فيجوز أن يكون كل واحد منهما ستراً لصاحبه عما لا يحل ، كما جاء في الحديث : " من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه " .

قوله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } . أي تخونونها وتظلموها بالمجامعة بعد العشاء ، قال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله تعالى ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) .

قوله تعالى : { فتاب عليكم ) تجاوز عنكم .

قوله تعالى : { وعفا عنكم ) محا ذنوبكم .

قوله تعالى : { فالآن باشروهن } . جامعوهن حلالاً ، سميت المجامعة مباشرة لملاصقة بشرة كل واحد منهما صاحبه .

قوله تعالى : { وابتغوا ما كتب الله لكم } . أي فاطلبوا ما قضى الله لكم ، وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد ، قاله أكثر المفسرين ، قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه . وقال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ ، وقال معاذ بن جبل : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يعني ليلة القدر .

قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } . نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة ابن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمه ، وقال الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس بن صرمة ، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم ، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر ، وقال لأهله قدمي الطعام ؟ فأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً سخيناً فأخذت تعمل له سخينة ، وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب ، فلما فرغت من طعامه إذ هو به قد نام وكان قد أعيا وكل ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله ، فأبى أن يأكل فأصبح صائماً مجهوداً ، فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه ، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه قال له : يا أبا قيس مالك أصبحت طليحاً ؟ فذكر له حاله ، فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ( وكلوا واشربوا ) يعني في ليالي الصوم ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ) .

قوله تعالى : { من الخيط الأسود } . يعني بياض النهار من سواد الليل ، سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتداً كالخيط .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ، ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال : أنزلت ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل قوله : ( من الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى بعده .

قوله تعالى : { من الفجر } . فعلموا أنما يعني بهما الليل والنهار .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحجاج بن منهال ، أخبرنا هشيم ، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " .

قال وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت .

واعلم أن الفجر فجران . كاذب وصادق ، فالكاذب يطلع أولاً مستطيلاً كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم ، ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيراً ، ينتشر سريعاً في الأفق ، فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم .

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراح ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا هناد بن يوسف بن عيسى قال : أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ، ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الأفق " .

قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } . فالصائم يحرم عليه الطعام ، والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان الثوري أخبرنا هشام بن عروة قال : سمعت أبي يقول : سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .

قوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } . والعكوف ، هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع : هو الإقامة في المسجد على عبادة الله ، وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد .

أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكفت أزواجه من بعده " . والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد ، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل ، فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم ، فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف ، أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة ، فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي ، كما لا يبطل به الحج ، وقالت طائفة : يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك ، وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا ، كالصوم ، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . قوله تعالى : { تلك حدود الله } . يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف ، حدود الله أي : ما منع الله عنها ، قال السدي : شروط الله ، وقال شهر بن حوشب : فرائض الله ، وأصل الحد في اللغة المنع ، ومنه يقال للبواب حداد ، لأنه يمنع الناس من الدخول ، وحدود الله ما منع الله من مخالفتها .

قوله تعالى : { فلا تقربوها } . فلا تأتوها .

قوله تعالى : { كذلك } . هكذا .

قوله تعالى : { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } . لكي يتقوها فينجوا من العذاب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

178

ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام . فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر ، وحل الطعام والشراب كذلك ، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب ، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد :

( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ؛ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ؛ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل ، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد . تلك حدود الله فلا تقربوها . كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) .

وفي أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره . فإذا صحا بعد نومه من الليل - ولو كان قبل الفجر - لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب . وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاما عند أهله وقت الإفطار ، فغلبه النوم ، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل . ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي [ ص ] كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته ، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي [ ص ] وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف ، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم ، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة . . ونزلت هذه الآية . نزلت تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر :

( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .

والرفث مقدمات المباشرة ، أو المباشرة ذاتها ، وكلاهما مقصود هنا ومباح . . ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة ، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقا ونداوة ، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته ، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة :

هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . .

واللباس ساتر وواق . . وكذلك هذه الصلة بين الزوجين . تستر كلا منهما وتقيه . والإسلام الذي يأخذهذا الكائن الإنساني بواقعه كله ، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي ، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته . . الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم . وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة ، ويدثرها بها الدثار اللطيف . . في آن . .

ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم ، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم :

( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم . فتاب عليكم وعفا عنكم ) . .

وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها ، تتمثل في الهواتف الحبيسة ، والرغبات المكبوتة ؛ أو تتمثل في الفعل ذاته ، وقد ورد أن بعضهم أتاه . . وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم ، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم . . فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم :

( فالآن باشروهن ) . .

ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله ، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضا :

( وابتغوا ما كتب الله لكم ) . .

ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء ، ومن المتعة بالذرية ، ثمرة المباشرة . فكلتاهما من أمر الله ، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه ، ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها . وهي موصولة بالله فهي من عطاياه . ومن ورائها حكمة ، ولها في حسابه غاية . فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد ، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط .

بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما ، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما . وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى . . ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها ، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها . وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء . المنهج الخارج من يد الخالق . وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .

وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها :

( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) . .

أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال . وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب . وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول : إنه قبل طلوع الشمس بقليل . وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت . . ربما زيادة في الاحتياط . .

قال ابن جرير - بإسناده - عن سمرة بن جندب : قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض ، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر " . . ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكنه الفجر المستطير في الأفق " . . والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل . . وكان بلال - رضي الله عنه - يبكر في الأذان لتنبيه النائم ، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخرا للإمساك . وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال . .

ثم يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد . والاعتكاف - بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد . وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة ، أو ضرورة الطعام والشراب - يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة . وكانت سنة رسول الله [ ص ] في العشر الأواخر منه . . وهي فترة تجرد لله . ومن ثم امنتعت فيها المباشرة تحقيقا لهذا التجرد الكامل ، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء ، ويخلص فيه القلب من كل شاغل :

( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) . .

سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار .

وفي النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع . كل أمر وكل نهي . كل حركة وكل سكون :

( تلك حدود الله فلا تقربوها ) . .

والنهي هنا عن القرب . . لتكون هناك منطقة أمان . فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت ؛ فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة ، اعتمادا على أنه يمنع نفسه حين يريد . ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر : ( فلا تقربوها ) . . والمقصود هو المواقعة لا القرب . ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى :

( كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) . .

وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها ، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا ، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

هذه رُخْصة من الله تعالى للمسلمين ، ورَفْع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك ، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة . فوجدوا من ذلك مَشَقة كبيرة . والرفث هنا هو : الجماع . قاله{[3270]} ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطاوس ، وسالم بن عبد الله ، وعَمْرو بن دينار{[3271]} والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والضحاك ، وإبراهيم النَّخَعي ، والسّدي ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان .

وقوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : يعني هن سَكَن لكم ، وأنتم سكن لهن .

وقال الربيع بن أنس : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن .

وحاصله أنّ الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويُمَاسه ويضاجعه ، فناسب أن يُرَخَّص لهم في المجامعة في ليل رمضانَ ، لئلا يشقّ ذلك عليهم ، ويحرجوا ، قال الشاعر{[3272]} :

إذا ما الضجيع ثَنَى جيدها *** تَدَاعَتْ فكانت عليه لباسا

وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويلِ ، وقال أبو إسحاق عن البراء ابن عازب قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل إلى مثلها ، وإن قَيْس بن صِرْمة{[3273]} الأنصاري كان صائمًا ، وكان يومه ذاك يعمل في أرضه ، فلما حَضَر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك . فغلبته عينُه فنام ، وجاءت امرأته ، فلما رأته نائما قالت : خيبة لك ! أنمت ؟ فلما انتصف النهار غُشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } ففرحوا بها فرحًا شديدًا{[3274]} .

ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق : سمعت البراء قال : لما نزل صومُ رمضان كانوا لا يقرَبُون النساء ، رَمَضَان كُلّه ، وكان رجَال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ }{[3275]} .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صَلُّوا العشاء حَرُم عليهم{[3276]} النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن أناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } وكذا روى العوفي عن ابن عباس .

وقال موسى بن عقبة ، عن كُرَيْب ، عن ابن عباس ، قال : إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ، ويحل لهم شأن النساء ، فإذا نام أحدهُم لم يطعم ولم يشرَب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة ، فبلغنا أن عُمَر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوْمُ وَقَع على أهله ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت . قال : " وماذا صنعت ؟ " قال : إني سَوَّلَتْ لي نفسي ، فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا أريد الصوم . فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما كنت خليقًا أن تفعل " . فنزل الكتاب : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قيس بن سعد{[3277]} ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة في قول الله تعالى{[3278]} { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } قال : كانَ المسلمون قبلَ أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حَرُمَ عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا ، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء ، وأن صِرْمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب ، فنام ولم يشبع من الطعام ، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، فقام فأكل وشرب ، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره{[3279]} بذلك ، فأنزل الله عند ذلك : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } يعني بالرفث : مجامعة النساء { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } يعني : تجامعون النساء ، وتأكلون وتشربون بعد العشاء { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } يعني : جامعوهن { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني : الولد { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فكان ذلك عفوًا من الله ورحمة .

وقال هُشَيم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبِي ليلى ، قال : قام عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، إني أردت أهلي البارحة{[3280]} على ما يريد الرجلُ أهلهُ فقالت : إنها قد نامت ، فظننتها تعْتلّ ، فواقعتها ، فنزل في عمر : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }

وهكذا رواه شعبة ، عن عَمْرو بن مُرّة ، عن ابن أبي ليلى ، به{[3281]} .

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا سويد ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لَهِيعة ، حدثني موسى بن جبير - مولى بني سلمة - أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسَى فنام ، حُرّم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد . فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سَمَرَ عنده ، فوجد امرأته قد نامت ، فأرادها ، فقالت : إني قد نمت ! فقال : ما نمت ! ثم وقع بها . وصنع كعب بن مالك مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } [ الآية ]{[3282]} {[3283]} .

وهكذا روي عن مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع ، وفي صِرْمة بن قيس ؛ فأباح الجماعَ والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقًا .

وقوله : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قال أبو هريرة ، وابن عباس {[3284]} وأنس ، وشُرَيح القاضي ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، والحكم بن عتبة{[3285]} ومقاتل بن حيان ، والحسن البصري ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم : يعني الولد .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني : الجماع .

وقال عَمْرو بن مالك النَّكْري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قال : ليلة القدر . رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر قال : قال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم . وقال سعيد عن قتادة : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يقول : ما أحل الله لكم .

وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا ابن عُيَيْنة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية : { وَابْتَغُوا } أو : " اتبعوا " ؟ قال : أيتهما شئت : عليك بالقراءة الأولى .

واختار ابن جرير أنّ الآية أعمّ من هذا كله .

وقوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } أباح تعالى الأكل والشرب ، مع ما تقدم من إباحة الجماع في أيّ الليل شاء الصائمُ إلى أن يتبين ضياءُ الصباح من سواد الليل ، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ورفع اللبس بقوله : { مِنَ الْفَجْرِ } كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غَسَّان محمد بن مُطَرِّف ، حدثني أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : أنزلت : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } ولم يُنزلْ { مِنَ الْفَجْرِ } وكان رجال إذا أرادوا الصوم ، رَبَطَ أحدُهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد : { مِنَ الْفَجْرِ } فعلموا أنما يعني : الليل والنهار{[3286]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، أخبرنا حُصَين ، عن الشعبي ، أخبرني عَديّ بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } عَمَدت إلى عقالين ، أحدُهما أسود والآخر أبيض ، قال : فجعلتهما تحت وسادتي ، قال : فجعلت أنظر إليهما فلا تَبَيَّن{[3287]} لي الأسود من الأبيض ، ولا الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت . فقال : " إنّ وسادك إذًا لعريض ، إنما ذلك بياض النهار وسواد{[3288]} الليل " {[3289]} .

أخرجاه في الصحيحين من غير وجه ، عن عَديّ{[3290]} . ومعنى قوله : " إن وسادك إذًا لعريض " أي : إن كان يسعُ لوضع الخيط الأسود والخيط الأبيض المرادين من هذه الآية تحتها ، فإنهما بياض النهار وسواد الليل . فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب .

وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا : أخبرنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن حُصَين ، عن الشعبي ، عن عَدِيّ قال : أخذ عَدي عقالا أبيض وعقالا أسود ، حتى كان بعض الليل نظر فلم يتبينا{[3291]} . فلما أصبح قال : يا رسول الله ، جعلت تحت وسادتي . قال : " إن وسادك إذًا لعريض ، إنْ كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك " {[3292]} .

وجاء في بعض الألفاظ : إنك لعريض القفا . ففسره بعضهم بالبلادة ، وهو ضعيف . بل يرجع إلى هذا ؛ لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضًا عريض ، والله أعلم . ويفسره رواية البخاري أيضًا :

حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن مُطَرّف ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان ؟ قال : " إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين " . ثم قال : " لا بل هو{[3293]} سواد الليل وبياض النهار " {[3294]} .

وفي إباحته تعالى جوازَ الأكل إلى طلوع الفجر ، دليل على استحباب السَّحُور ؛ لأنه من باب الرخصة ، والأخذ بها محبوب ؛ ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السَّحور [ لأنه من باب الرخصة والأخذ بها ]{[3295]} ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَسَحَّرُوا فإن في السَّحور بركة " {[3296]} . وفي صحيح مسلم ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فَصْل{[3297]} ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر{[3298]} " {[3299]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى{[3300]} هو ابن الطباع ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السَّحور أكْلُهُ بركة ؛ فلا تدعوه ، ولو أنّ أحدكم يَجْرَع جرعة من ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " {[3301]} .

وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء ، تشبهًا{[3302]} بالآكلين . ويستحب تأخيره إلى قريب انفجار الفجر ، كما جاء في الصحيحين ، عن أنس بن مالك ، عن زيد بن ثابت ، قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قمنا إلى الصلاة . قال أنس : قلت لزيد : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية{[3303]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن سالم بن غيلان ، عن سليمان{[3304]} بن أبي عثمان ، عن عَديّ بن حاتم الحمصي ، عن أبي ذَرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال أمتي بخير ما عَجَّلوا الإفطار وأخَّروا السحور " {[3305]} . وقد ورد في أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمَّاه الغَدَاء المبارك ، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة من رواية حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زرّ بن حبيش ، عن حذيفة بن اليمان قال : تسحَّرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع{[3306]} . وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النَّجُود ، قاله النسائي ، وحمله على أن المراد قربُ النهار ، كما قال تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ الطلاق : 2 ] أي : قاربن انقضاء العدة ، فإما إمساك{[3307]} أو تَرْك للفرَاق . وهذا الذي قاله هو المتعيَّن حملُ الحديث عليه : أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر ، حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك . وقد رُوي عن طائفة كثيرة من السلف أنَّهم تسامحوا {[3308]} في السحور عند مقاربة الفجر . روي مثل هذا عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت وعن طائفة كثيرة من التابعين ، منهم : محمد بن علي بن الحسين ، وأبو مِجْلز ، وإبراهيم النَّخَعَي ، وأبو الضُّحَى ، وأبو وائل ، وغيره{[3309]} من أصحاب ابن مسعود وعطاء ، والحسن ، والحكم بن عيينة{[3310]} ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد . وإليه ذهب الأعمش معمر{[3311]} بن راشد . وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد ، ولله الحمد .

وحكى أبو جَعفر بن جرير في تفسيره ، عن بعضهم : أنَّه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها .

قلت : وهذا القول ما أظنّ أحدًا من أهل العلم يستقر له قَدَم عليه ، لمخالفته نصّ القرآن في قوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } وقد وَرَدَ في الصحيحين من حديث القاسم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنعكم{[3312]} أذانُ بلال عن سَحُوركم ، فإنه ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " . لفظ البخاري{[3313]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا محمد بن جابر ، عن قيس بن طَلْق ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الفجرُ المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر " {[3314]} . ورواه أبو داود ، والترمذي ولفظهما : " كلوا واشربوا ولا يَهِيدَنَّكُمْ الساطع المصعد ، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر " {[3315]} .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن شيخ من بني قشير : سمعت سَمُرة بن جُنْدَب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر ، أو يطلع الفجر " .

ثم رواه من حديث شعبة وغيره ، عن سوادة بن حنظلة ، عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سَحُوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الأفق " {[3316]} .

قال : وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَية ، عن عبد الله بن سَوادة القُشَيري ، عن أبيه ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض ، تعمدوا الصبح حين يستطير " {[3317]} .

ورواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ، عن إسماعيل بن إبراهيم - يعني{[3318]} ابن علية - مثله سواء{[3319]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حمَيد ، حدثنا ابن المبارك ، عن سُلَيمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعَنّ أحدكم أذان بلال عن سحوره - أو قال نداء بلال - فإن بلالا يؤذن - أو [ قال ]{[3320]} ينادي - لينبه نائمكم وليَرْجع قائمكم ، وليس الفجر أن يقول هكذا أوهكذا ، حتى يقول هكذا " .

ورواه من وجه آخر عن التيمي ، به{[3321]} .

وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي ، حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئْب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الفجر فجران ، فالذي كأنه ذنب السرحان لا يُحَرِّم شيئًا ، وأما المستطير الذي يأخذ الأفق ، فإنه يحل الصلاة ويحرّم الطعام " {[3322]} . وهذا مرسل جيد .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران ، فأما الذي يسطع في السماء فليس يُحِلّ ولا يحرِّم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستبين{[3323]} على رؤوس الجبال ، هو الذي يحرّم الشراب . قال عطاء : فأما إذا سطع سطوعًا في السماء ، وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم به شراب لصيام ولا صلاة ، ولا يفوت به حج{[3324]} ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال ، حرم الشراب للصيام وفات الحج .

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء ، وهكذا رُوي عن غير واحد من السلف ، رحمهم الله .

مسألة : ومِن جَعْله تعالى الفجرَ غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام ، يُسْتَدَلّ على أنه من أصبح جُنُبًا فليغتسل ، وليتم صومه ، ولا حرج عليه . وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا ، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة ، رضي الله عنهما ، أنهما قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جُنُبًا من جماع غير احتلام ، ثم يغتسل ويصوم{[3325]} . وفي حديث أم سلمة عندهما : ثم لا يفطر ولا يقضي . وفي صحيح مسلم ، عن عائشة : أن رجلا قال : يا رسول الله ، تُدْركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم " . فقال : لست مثلنا - يا رسول الله - قد غفرَ اللهُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فقال : " والله إني لأرجو أن أكونَ أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " {[3326]} . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا نودي للصلاة - صلاة الصبح - وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ " {[3327]} فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين ، كما ترى{[3328]} وهو في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم{[3329]} وفي سنن النسائي{[3330]} عنه ، عن أسامة بن زيد ، والفضل بن عباس ولم يرفعه{[3331]} . فمن العلماء من علَّل هذا الحديث بهذا ، ومنهم من ذهب إليه ، ويُحْكى هذا عن أبي هريرة ، وسالم ، وعطاء ، وهشام بن عروة ، والحسن البصري . ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنبًا نائمًا فلا عليه ، لحديث عائشة وأم سلمة ، أو مختارًا فلا صومَ له ، لحديث أبي هريرة . يحكى{[3332]} هذا عن عُروة ، وطاوس ، والحسن . ومنهم من فرق بين الفرض فيتمه ويقضيه وأما النَّفْل فلا يضره . رواه الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم النخَعي . وهو رواية عن الحسن البصري أيضًا ، ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ، ولكن لا تاريخ معه .

وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية الكريمة ، وهو بعيد أيضًا ، وأبعد ؛ إذ لا تاريخ ، بل الظاهر من التاريخ خلافه . ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال " فلا صوم له " لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز . وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } يقتضي الإفطار عند غُرُوب الشمس حكمًا شرعيًا ، كما جاء في الصحيحين ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ، فقد أفطر الصائم " {[3333]} .

وعن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " أخرجاه أيضًا{[3334]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا قُرّة بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله ، عز وجل : إن أحبّ عبادي إلي أعجلُهم فِطْرًا " .

ورواه الترمذي من غير وجه ، عن الأوزاعي ، به{[3335]} . وقال : هذا حديث حسن غريب .

وقال أحمد أيضًا : حدثنا عفان ، حدثنا عبيد الله{[3336]} بن إياد ، سمعت إياد بن لقيط قال : سمعت ليلى امرأة بَشِير بن الخَصَاصِيَّة ، قالت : أردت أن أصومَ يومين مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه . وقال : " يفعل ذلك النصارى ، ولكنْ صُوموا كما أمركم الله ، وأتموا الصيامَ إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " {[3337]} .

[ وروى الحافظ ابن عساكر ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا يحيى بن حمزة ، عن ثور بن يزيد ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الملك بن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل يومين وليلة ؛ فأتاه جبريل فقال : إن الله قد قبل وصالك ، ولا يحل لأحدٍ بعدك ، وذلك بأن الله قال : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فلا صيام بعد الليل ، وأمرني بالوتر قبل الفجر ، وهذا إسناد لا بأس به ، أورده في ترجمة عبد الملك بن أبي ذر في تاريخه ]{[3338]} {[3339]} .

ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال ، وهو أن يصل صوم يوم بيوم آخر ، ولا يأكل بينهما شيئًا . قال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تواصلوا " . قالوا : يا رسول الله ، إنك تواصل . قال : " فإني لست مثلكم ، إني أبِيتُ يُطْعمني ربي ويسقيني " . قال : فلم ينتهوا عن الوصال ، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ، ثم رأوا الهلال ، فقال : " لو تأخر الهلال لزدتكم " كالمُنكِّل بهم{[3340]} .

وأخرجاه في الصحيحين ، من حديث الزهري به{[3341]} . وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من حديث أنس وابن عمر{[3342]} .

وعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، رحمة لهم ، فقالوا : إنك تواصل . قال : " إني لست كهيئتكم ، إني يطعمني ربي ويسقيني " {[3343]} .

فقد ثبت النهي عنه من غير وجه ، وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان يقوى على ذلك ويعان ، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويًا لا حسيًا ، وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي ، ولكن كما قال الشاعر :

لها أحاديثُ من ذكراك تَشْغَلها *** عن الشراب وتُلْهيها عَن الزادِ

وأما من أحبّ أن يُمْسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " . قالوا : فإنك تواصِل يا رسول الله . قال : " إني{[3344]} لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مُطْعِم يطعمني ، وساق يسقيني " . أخرجاه في الصحيحين أيضًا{[3345]} .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُريْب ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أبو إسرائيل العَبْسي{[3346]} عن أبي بكر ابن حفص ، عن أمّ ولد حاطب بن أبي بَلْتعة : أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر ، فدعاها إلى الطعام . فقالت : إني صائمة . قال : وكيف تصومين ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أين أنت من وصال آل محمد ، من السَّحَر إلى السَّحَر " {[3347]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن محمد بن علي ، عن علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السَّحَر إلى السَّحَر{[3348]} .

وقد روى ابن جرير ، عن عبد الله بن الزّبير وغيره من السلف ، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة [ وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ]{[3349]} وحمله منهم على أنهم كانُوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم ، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة . والله أعلم . ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرْشَاد ، [ أي ]{[3350]} من باب الشفقة ، كما جاء في حديث عائشة : " رحمة لهم " ، فكان ابن الزبير وابنُه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه ، لأنهم كانوا يجدون قُوة عليه . وقد ذُكرَ عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصَّبِر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولا . وقد رُوي عن ابن الزبير أنَّه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم . وقال أبو العالية : إنما فرض الله الصيام بالنهار فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل .

وقوله تعالى : { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان ، فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلا ونهارا{[3351]} حتى يقضي اعتكافه .

وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد ، جامع إن شاء ، فقال الله تعالى : { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } أي : لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد{[3352]} ولا في غيره . وكذا قال مجاهد ، وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك والسُّدِّي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، قالوا : لا يقربها وهو معتكف . وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء : أن المعتكف يحرمُ عليه النساءُ ما دامَ معتكفًا في مسجده ، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يتلبَّث{[3353]} فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك ، من قضاء الغائط ، أو أكل ، وليس له أن يقبل امرأته ، ولا يضمها إليه ، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ، ولا يعود المريض ، لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه .

وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابه ، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ، ومنها ما هو مختلف فيه{[3354]} . وقد ذكرنا قِطْعَة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ، ولله الحمد{[3355]} .

ولهذا كان الفقهاء المصنفون يُتْبِعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف ، اقتداء بالقرآن العظيم ، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم . وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام ، أو في آخر{[3356]} شهر الصيام ، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يعتكف العشرَ الأواخر من شهر رمضان ، حتى توفاه الله ، عز وجل . ثم اعتكف أزواجُه من بعده . أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها{[3357]} ، وفي الصحيحين أن صَفيَّة بنت حُيي كانت {[3358]} تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت لترجع إلى منزلها - وكان ذلك ليلا - فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها ، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة ، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا - وفي رواية : تواريا - أي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه{[3359]} ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " على رِسْلكما إنها صفية بنت حيي " أي : لا تسرعا ، واعلما أنها صفية بنت حيي ، أي : زوجتي . فقالا سبحان الله يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا " أو قال : " شرًّا " {[3360]} .

قال الشافعي ، رحمه الله : أراد ، عليه السلام ، أنْ يعلم أمّته التبري من التُّهْمَة في محلها ، لئلا يقعا في محذور ، وهما كانا أتقى لله أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا . والله أعلم .

ثم المراد بالمباشرة : إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ، ومعانقة ونحو ذلك ، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به ؛ فقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدْني إليّ رأسه فأرجِّلُه وأنا حائض ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . قالت عائشة : ولقد كان المريضُ يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة{[3361]} .

وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : هذا الذي بيناه ، وفرضناه ، وحددناه من الصيام ، وأحكامه ، وما أبحنا فيه وما حرّمنا ، وذِكْر{[3362]} غاياته ورخصه وعزائمه ، حدود الله ، أي : شرعها الله وبيَّنها بنفسه { فَلا تَقْرَبُوهَا } أي : لا تجاوزوها ، وتعتدوها{[3363]} .

وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : المباشرة في الاعتكاف .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني هذه الحدود الأربعة ، ويقرأ{[3364]} { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } حتى بلغ : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } قال : وكان أبي وغيره من مَشْيَختنا{[3365]} يقولون هذا ويتلونه علينا .

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي : كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله ، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : يَعْرفون كيف يهتدون ، وكيف يطيعون كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } ] {[3366]} . [ الحديد : 9 ] .


[3270]:في أ: "كما قال".
[3271]:في جـ: "بن يسار".
[3272]:هو النابغة الجعدي، والبيت في تفسير الطبري (3/490).
[3273]:في و: "قيس بن أبي صرمة".
[3274]:هذا اللفظ رواه الطبري في تفسيره (3/495).
[3275]:صحيح البخاري برقم (4508).
[3276]:في جـ: "حرم الله عليهم".
[3277]:في جـ: "سعد بن قيس".
[3278]:في جـ: "في قوله تعالى".
[3279]:في جـ: "فأخبراه".
[3280]:في جـ: "البارحة أهلي".
[3281]:رواه ابن مردويه في تفسيره من طريق عمرو بن عون، عن هشيم به. قال الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/566): "هذا إسناد جيد وابن أبي ليلى مختلف في سماعه من عمر، ولكن قد روي من وجه آخر عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أن عمر فعل مثل هذا". ورواه الطبري في تفسيره (3/493) من طريق شعبة عن عمرو بن مرة به.
[3282]:زيادة من جـ، أ، و.
[3283]:تفسير الطبري (3/496).
[3284]:في جـ: "قال الزهري عن ابن عباس".
[3285]:في أ: "عيينة"، وفي و: "عتيبة".
[3286]:صحيح البخاري برقم (4511).
[3287]:في جـ: "فلما يتبين".
[3288]:في جـ: "من سواد".
[3289]:المسند (4/377).
[3290]:صحيح البخاري برقم (1916، 4509) وصحيح مسلم برقم (1090).
[3291]:في أ، و: "فلم يستبينا".
[3292]:صحيح البخاري برقم (4509).
[3293]:في جـ: "بل هما".
[3294]:صحيح البخاري برقم (4510).
[3295]:زيادة من جـ.
[3296]:صحيح البخاري برقم (1923) وصحيح مسلم برقم (1095).
[3297]:في أ: "إن أفضل".
[3298]:في أ: "السحور".
[3299]:صحيح مسلم برقم (1096).
[3300]:في جـ: "بن إسحاق".
[3301]:المسند (3/44).
[3302]:في أ: "تشبيها".
[3303]:صحيح البخاري برقم (1921) وصحيح مسلم برقم (1097).
[3304]:في جـ: "عن سلمان".
[3305]:المسند (5/172).
[3306]:المسند (5/396) وسنن النسائي (4/142) وسنن ابن ماجة برقم (1695).
[3307]:في جـ: "إمساك بمعروف".
[3308]:في أ: "أنهم سامحوا".
[3309]:في أ: "وغيرهما".
[3310]:في جـ: "ابن قتيبة"، وفي و: "ابن عتيبة".
[3311]:في جـ، أ: "ومعمر".
[3312]:في و: "لا يمنعنكم".
[3313]:صحيح البخاري برقم (1918، 622) وصحيح مسلم برقم (1092) وقوله: "لا يمنعنكم أذان بلال عن سحوركم" لم يقع في البخاري من حديث عائشة وإنما من حديث عبد الله بن مسعود، هذا ما ظهر لي بعد البحث، والله أعلم.
[3314]:المسند (4/23).
[3315]:سنن أبي داود برقم (2348) وسنن الترمذي برقم (705).
[3316]:هذا الحديث لم أجده في تفسير الطبري المطبوع.
[3317]:في أ، و: "لعمود الصبح حتى يستطير".
[3318]:في و: "هو".
[3319]:صحيح مسلم برقم (1094).
[3320]:زيادة من و.
[3321]:لم أجد هذا الحديث في المطبوع من تفسير الطبري ورواه البخاري في صحيحه برقم (621، 5298) ومسلم في صحيحه برقم (1093) من طريق أبي عثمان النهدي به.
[3322]:تفسير الطبري (3/514).
[3323]:في أ: "حتى يستنير".
[3324]:في أ: "به الحج".
[3325]:صحيح البخاري برقم (1925، 1926) وصحيح مسلم برقم (1109).
[3326]:صحيح مسلم برقم (1109).
[3327]:المسند (2/314).
[3328]:في جـ: "كما ترى على شرط الشيخين".
[3329]:صحيح البخاري برقم (1925) وصحيح مسلم برقم (1109).
[3330]:في أ: "وفي سنن أبي داود والنسائي".
[3331]:سنن النسائي الكبرى برقم (2933، 2934).
[3332]:في جـ: "ويحكي".
[3333]:صحيح البخاري برقم (1954) وصحيح مسلم برقم (1100).
[3334]:صحيح البخاري برقم (1957) وصحيح مسلم برقم (1098).
[3335]:المسند (2/238) وسنن الترمذي برقم (700، 701).
[3336]:في أ: "عبد الله".
[3337]:المسند (5/225).
[3338]:زيادة من جـ أ، و.
[3339]:انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (15/192).
[3340]:في جـ: "لهم".
[3341]:صحيح البخاري برقم (6851) وصحيح مسلم برقم (1105).
[3342]:حديث أنس في صحيح البخاري برقم (1961) وفي صحيح مسلم برقم (1104)، وحديث ابن عمر في صحيح البخاري برقم (1962) وفي صحيح مسلم برقم (1102).
[3343]:صحيح البخاري برقم (1964) وصحيح مسلم برقم (1105).
[3344]:في جـ: "فإني".
[3345]:صحيح البخاري برقم (1963) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
[3346]:في أ: "القيسي".
[3347]:تفسير الطبري (3/537، 538).
[3348]:المسند (1/91، 141).
[3349]:زيادة من جـ.
[3350]:زيادة من جـ.
[3351]:في جـ، أ: "أو نهارا".
[3352]:في أ: "في المساجد".
[3353]:في جـ: "أن يمكث".
[3354]:في أ: "فيها".
[3355]:في جـ: "ولله الحمد والمنة".
[3356]:في أ، و: "أو في أواخر".
[3357]:صحيح البخاري برقم (2033) وصحيح مسلم برقم (1172) واللفظ لمسلم.
[3358]:في جـ، أ: "جاءت".
[3359]:في جـ: "معه أهله".
[3360]:صحيح البخاري برقم (2035، 6219) وصحيح مسلم برقم (2175) من حديث صفية رضي الله عنها.
[3361]:صحيح البخاري برقم (2029) وصحيح مسلم برقم (297).
[3362]:في جـ: "وذكرنا".
[3363]:في جـ: "تتجاوزوها أو تعتدوها".
[3364]:في جـ: "ويقول".
[3365]:في أ: "من مشايخنا".
[3366]:زيادة من و، وفي جـ، ط، أ، هـ: "الآية".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 187 )

لفظة { أحل } تقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك( {[1719]} ) ، و { ليلة } نصب على الظرف ، وهي اسم جنس فلذلك أفردت ، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [ الوافر ]

همُ المَولَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنا . . . وإنّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ( {[1720]} )

و { الرفث } كناية عن الجماع ، لأن الله تعالى كريم يكني( {[1721]} ) ، قاله ابن عباس والسدي ، وقرأ ابن مسعود «الرفوث » ، و { الرفث } في غير هذا ما فحش من القول ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]

عَنِ اللّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ( {[1722]} ) . . . وقال أبو إسحاق : «الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أو كلام في هذه المعاني( {[1723]} ) ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه »( {[1724]} )

وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم ، أو بعد صلاة العشاء ، على الخلاف( {[1725]} ) ، منهم عمر بن الخطاب ، جاء إلى امرأته فأرادها ، فقالت له : قد نمت ، فظن أنها تعتل ، فوقع بها ثم تحقق أنها قد كانت نامت ، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعاً : وقال السدي : جرى له هذا في جارية له ، قالوا : فذهب عمر فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري ، فنزل صدر الآية فيهم( {[1726]} ) ، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم ، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع بامرأته( {[1727]} ) ، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه ، وروي أن صرمة بن قيس ، ويقال صرمة بن مالك ، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة( {[1728]} ) ، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل ، فنزل فيه من قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } ، واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك( {[1729]} ) ، كما قال النابغة الجعدي : [ المتقارب ]

إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا . . . تَدَاعتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا( {[1730]} )

وقال النابغة أيضاً : [ المتقارب ]

لَبِسْت أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ . . . وَأَفْنَيْت بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا( {[1731]} )

فشبه خلطته لهم باللباس ، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره ، وقال مجاهد والسدي : { لباس } : سكن ، أي يسكن بعضهم إلى بعض ، وإنما سميت هذه الأفعال اختياناً لعاقبة المعصية وجزائها ، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها ، و { فتاب عليكم } معناه من المعصية التي واقعتموها ، و { عفا عنكم } يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيداً ، وتأنيساً بزيادة على التوبة ، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف ، بمعنى تركه لكم( {[1732]} ) ، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك .

قال ابن عباس وغيره : { باشروهن } كناية عن الجماع ، مأخوذ من البشرة( {[1733]} ) ، وقد ذكرنا لفظة { الآن }( {[1734]} ) في ماضي قصة البقرة . { وابتغوا ما كتب الله لكم } .

قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه ابتغوا الولد( {[1735]} ) .

وروي أيضاً عن ابن عباس وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى ابتغوا الرخصة والتوسعة ، قاله قتادة ، وهو قول حسن ، وقرأ الحسن فيما روي عنه ومعاوية بن قرة «واتبعوا » من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح { ابتغوا } من الابتغاء .

{ وكلوا واشربوا حتى يتبين } نزلت بسبب صرمة بن قيس ، و { حتى } غاية للتبين ، ولا يصح أن يقع التبين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، و { الخيط } استعارة وتشبيه( {[1736]} ) لرقة البياض أولاً ورقة السواد الحاف به ، ومن ذلك قول أبي داود( {[1737]} ) :

فَلَمَّا بَصُرْنَ بِهِ غدْوَةً . . . وَلاَحَ مِنَ الْفَجْرِ خَيْطٌ أَنَارا

ويروى فنارا ، وقال بعض المفسرين : { الخيط } اللون ، وهذ لا يطرد لغة ، والمراد فيما قال جميع العلماء بياض النهار وسواد الليل ، وهو نص قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في حديثه المشهور( {[1738]} ) ، و { من } الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، و { الفجر } مأخوذ من تفجر الماء ، لأنه يتفجر شيئاً بعد شيء ، وروي عن سهل بن سعد( {[1739]} ) وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله { من الفجر } فصنع بعض الناس خيطين أبيض وأسود ، فنزل قوله تعالى : { من الفجر }( {[1740]} ) ، وروي أنه كان بين طرفي المدة عام .

قال القاضي أبو محمد : من رمضان إلى رمضان ، تأخر البيان إلى وقت الحاجة( {[1741]} ) ، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «إن وسادك لعريض » ، وروي أنه قال له : «إنك لعريض القفا » ولهذه الألفاظ تأويلان( {[1742]} ) ، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك . فقال الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح : ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة ، فبطلوع أوله في الأُفق يجب الإمساك ، وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب( {[1743]} ) ، وروي عن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان وابن عباس وطلق بن علي( {[1744]} ) وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال ، وذكر عن حذيفة أنه قال : «تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار ، إلا أنّ الشمس لم تطلع » ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال : «الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود » .

قال الطبري : «ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها ، فكذلك أوله طلوعها » .

وحكى النقاش عن الخليل بن أحمد أن النهار من طلوع الفجر ، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى : { أقم الصلاة طرفي النهار }( {[1745]} ) [ هود : 114 ] ،

قال القاضي أبو محمد : والقول في نفسه صحيح ، وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى : { واختلاف الليل والنهار }( {[1746]} ) [ البقرة : 164 ، آل عمران : 190 ، الجاثية : 5 ] ، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر( {[1747]} ) ، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لم يطلع فعليه عند مالك القضاء( {[1748]} ) .

وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } أمر يقتضي الوجوب ، و { إلى } غاية ، إذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته ، وإذا كان من غير جنسه كما تقول اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما بعد { إلى } ، ورأت عائشة رضي الله عنها أن قوله { إلى الليل } يقتضي النهي عن الوصال( {[1749]} ) ، وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن الوصال ، وقد واصل جماعة من العلماء وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله { كما كتب على الذين من قبلكم } [ البقرة : 183 ] على قول من رأى التشبيه في الامتناع من الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم ، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم ، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس ، فمن أفطر وهو شاكّ هل غابت الشمس فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة .

في ثمانية أبي زيد : عليه القضاء فقط قياساً على الشك في الفجر ، وهو قول جماعة من العلماء( {[1750]} ) .

وقال إسحاق والحسن : لا قضاء عليه كالناسي .

وقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ، قالت فرقة : المعنى لا تجامعوهن .

وقال الجمهور : ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء ، و { عاكفون } ملازمون ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلاً عليه ، قال الراجز : [ الرجز ]

عكف النبيط يلعبونَ الفَنْزَجا( {[1751]} ) . . . وقال الشاعر : [ الطويل ]

وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْليَ عُكَّفاً . . . عَكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ( {[1752]} )

وقال أبو عمرو وأبو حاتم ، قرأ قتادة «عكفون بغير ألف ، والاعتكاف سنة ، وقرأ الأعمش " في المسجد " بالإفراد ، وقال : وهو المسجد الحرام .

قال مالك رحمه الله وجماعة معه : لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات ، وروي عن مالك أيضاً أن ذلك في كل مسجد ، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله .

وقال قوم : لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها حسب الحديث في ذلك .

وقالت فرقة لا اعتكاف إلى في مسجد نبي( {[1753]} ) .

وقال مالك : لا يعتكف أقل من يوم وليلة ، ومن نذر أحدهما لزمه الآخر .

وقال سحنون : من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء .

وقالت طائفة : أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر .

وقال مالك : لا اعتكاف بصوم .

وقال غيره : يعتكف بغير صوم ، وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد( {[1754]} ) .

و { تلك } إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي ، والحدود : الحواجز بين الإباحة والحظر ، ومنه قيل للبواب : حداد لأنه يمنع ، ومنه الحاد وهي المرأة الممتنعة من الزينة( {[1755]} ) ، والآيات : العلامات الهادية إلى الحق ، و { لعلهم } ترّجٍ في حقهم ، وظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء .


[1719]:- ثم أباح الله الجماع والأكل والشرب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا بالعباد وذلك بسبب عمر بن الخطاب ومن صنع صنعه، وبسبب صرمة بن قيس رضي الله عن الجميع، وروى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله [علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم] انتهى. واختان: أبلغ من خان، كما أن اكتسب أبلغ من كسب.
[1720]:- قال أبو عبيدة: العرب تضع الواحد موضع الجمع كما قال عامر الحصفي: هُمُ المَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا وَإنَّا مِنْ عَدَاوَتِهِمْ لَزُورُ أي: هم الموالي. ويقال له عامر الرام، وعامر الرامي الحضري الحصفي المحاري الصحاي الشاعر، ذكر له أبو عمر والحافظ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر له صاحب المفضليات قصيدة أولها: مَن مُبْلغ سعْدَ بن نعمان مالكا وسَعْد بن ذبْيان الذي قد تَخَتَّمَا وسمي بذلك لأنه كان ماهراً في الرماية.
[1721]:- والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب كما للثعالبي في فقه اللغة. والرفث كما قال أبو إسحق كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة. وقد نقل عن ابن عباس أن الرَّفث الذي نهى الله عنه ما خُوطبت به المرأة، وإنما عدي الرفث بإلى في الآية لأنه بمعنى الإفضاء، فلما كنت تعدى أفضيت بإلى كقولك إلى المرأة جئت بإلى مع الرفث إيذناً وإشعاراً بأنه بمعناه.
[1722]:- البيت للعجاج أو رؤبة. والبيت بتمامه: وَرُبَّ أسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّـــم عن اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ واللغا: الباطل. والكظم: الساكتون.
[1723]:- قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس أن نافعا أخبره، أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
[1724]:- أخرجه البخاري ومسلم.
[1725]:- فقد كان الصوم واجبا في أول الإسلام حتى في الليل من بعد العشاء أو من بعد النوم. روى الطبري عن طريق عطية عن ابن عباس قال: كان الناس أول ما أسلموا إذا صاموا يطعمون من الطعام فيما بين المساء والعتمة، فإذا صلُّوا العتمة حرم عليهم الطعام حتى يمسوا من الليلة القابلة.
[1726]:- كعب بن مالك هو أحد الذين شهدوا بيعة العقبة، وقد شهد أحداً وغيرها لكنه تخلف عن بدر، وعن تبوك، فهو واحد من الثلاثة الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم تاب الله عليهم، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته رضي الله عنه. هذا وآخر الآية نزل في صرمة ابن قيس الأنصاري الذي غشي عليه بسبب عدم الأكل والشرب بعد ما نام.
[1727]:- هذه الرواية تثبت أن عمر رضي الله عنه هو الذي نام، وهذا بعيد كما قال ابن عطية لأن المباشرة بعد النوم كانت حراما، فلا يليق ذلك بعمر. فالرواية السابقة هي الصواب، وهي أن امرأته نامت وهو رضي الله عنه لم يصدقها ظنا منه أنها إنما اعتذرت بالنوم.
[1728]:- اسم الذي نزل فيه قوله تعالى: [وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود] فيه اختلاف كثير، انظر ابن حجر في قيس بن صرمة. وفي صرمة بن قيس من "الإصابة". وقال أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" بعد أن ذكر قول ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد المبعث ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين ما نصه: ويشهد لذلك قول أبي قيس صرمة بن قيس الأنصاري: قال أبو عمر: روينا هذه الأبيات من طرق، عن سفيان بن عُيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم ذكر أكمل الروايات في هذه الأبيات.
[1729]:- فالتشبيه من حيث التباسهما واشتمال أحدهما على صاحبه، كما أن اللباس يشتمل على لابسه. ويصح أن يكون التشبيه من حيث أن أحدهما يستر الآخر، ويسكن إلى الآخر كما قال تعالى: (ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة)، وأيّا ما يكون فالتشبيه صورة رائعة من بلاغة القرآن.
[1730]:- هو النابغة الجعدي، كنيته أبو ليلى. واسمه عبد الله بن قيس، والضجيع: المضاجع للمرأة، وهي له لباس وفراش. ومعنى (تداعت): سقطت عليه، أو أقبلت عليه برغبة، وفي رواية: (تَثَنَّتْ).
[1731]:- يقال: لبست أناساً بمعنى: تملَّيت بهم زمنا – كما يقال: لبست امرأة بمعنى تمتعت بها.
[1732]:- بمعنى أنه خفف وسهّل عليكم في هذا الأمر وتركه لكم، وهذا هو المناسب لسماحة الدين ورفع الحرج عن أهله.
[1733]:- فالمباشرة إلصاق البشرة بالبشرة وذلك كناية عن الجماع.
[1734]:- الآن: عبارة عن الوقت الذي أنت فيه. وقد يقع على الماضي القريب، والمستقبل القريب تنزيلا للقريب منزلة الحاضر وهو المراد هنا، وعليه: فالآن متعلقة بقوله: [باشروهن]، وإذا قلنا: إنها للوقت الحاضر فهي متعلقة بمعنى ما قبلها، والتقدير: فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهن.
[1735]:- جعل الله لنا شهوة النكاح لبقاء النوع الإنساني، وشهوة الطعام لبقاء الشخص الإنساني إلى أجل مسمى. فحقّ الإنسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والدين، ومتى تحرى به حفظ النفس وتحصين النفس على الوجه المشروع فقد ابتغى ما كتب الله له وهو الولد.
[1736]:- قوله: استعارة وتشبيه مشكل – وقد وضح صاحب "الكشاف" هذا فقال: «فإن قلت: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه ؟ قلت: قوله: من الفجر – أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسداً مجاز، فإذا زدت "من فلان" رجع تشبيها – فإن قلت: فلم زيد "من الفجر" حتى كان تشبيها، وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة ؟ قلت: لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر "من الفجر" لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد "من الفجر" فكان تشبيها بليغا، وخرج من أن يكون استعارة». ا. هـ.
[1737]:- أبو داود بدالين مهملتين أولاهما مضمومة بعدها واو، شاعر جاهلي، واسمه جارية ابن الحجاج الإيادي، والرواية الموجودة عند الأكثر. فَلَمَّا أضّاءَت لنا سُــدفَــــةٌ وَلاحَ مِنَ خَيْطٌ أَنَـــاراَ والسُّدفة: اختلاط الضوء والظلمة كوقت ما بين صلاة الفجر إلى أول الإسفار.
[1738]:- روى البخاري، ومسلم عن عديِّ بن حاتم قال: لما نزلت: [حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر] قال عدي: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض، وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ وسَادَكَ لَعَريضٌ، إنّما هو سَوَادَ الليلِ وبياضُ النّهار).
[1739]:- هو سهل بن سعد بن مالك الأنصاري – صحابي مشهور، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومات سنة (91) هـ.
[1740]:- أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: أنزلت: [وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود] ولم ينزل: [من الفجر]، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما فأنزل الله (من الفجر) فعلموا أنه يعني الليل والنهار وزال الالتباس.
[1741]:- يعني أنه كان بين نزول قوله تعالى: [وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود] ونزول قوله تعالى: [من الفجر] عام من رمضان إلى رمضان.
[1742]:- قال (ك): ومعنى قوله: إن وسادك لعريض أي إن كان يسع الخيطين المرادين من هذه الآية فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب، لفظ (إنك لعريض القفا) فسره بعضهم بالبلادة وهو ضعيف بل يرجع هذا اللفظ إلى لفظ (إن وسادك لعريض) لأنه إذا كان وسادُه عريضا فقفاه أيضا عريض، والله أعلم.
[1743]:- لفظ حديث سَمُرَة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق) – ولفظ حديث ابن مسعود، عن عامر بن مطر، قال: (أتيت عبد الله بن مسعود في داره فأخرج فضلا من سحوره فأكلنا منه، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا)، انظر تفسير الإمام (ط) رحمه الله وصحيح الإمام مسلم. وفي أسد الغابة لابن الأثير: روى وكيع، عن مسعر عن جبلة بن سحيم، عن عامر بن مطر قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، كذا قاله سهل بن زنجلة، ورواه غيره عن وكيع، قال: تسحرنا مع ابن مسعود وهو الصحيح. أخرجه أبو نعيم، وأبو موسى. وسمرة بن جندب أحد الصحابة الحافظين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من حلفاء الأنصار، وقد خرج للحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاب صغير فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أذن له بعد صراعه مع شاب آخر صغير السن مثله – قيل إنه مات سنة (59) هـ.
[1744]:- هو طلق بن علي بن طلق بن عمرو – صحابي مشهور، اشترك مع الصحابة في بناء المسجد.
[1745]:- من الآية (114) من سورة (هود).
[1746]:- من الآية (164) من سورة البقرة، وقد سبق ذلك، ونصه هناك: وقال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس، قال: وزعم النضر بن شميل أن أول النهار ابتداء طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم ا. هـ. ويعني بذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الخيط الأبيض والخيط الأسود: إنما هو بياض النهار وسواد الليل. فهذا قاض أن النهار من طلوع الفجر لا من طلوع الشمس، والله أعلم.
[1747]:- قال ابن عطية عند قوله تعالى: [وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفا من الليل]: لم يختلف أحد أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة. واختلف في طرفي النهار وزلف الليل فقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: الظهر والعصر، والزُّلف: المغرب والعشاء، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المغرب والعشاء: هما زلفتا الليل. وقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: العصر – قاله الحسن، وقتادة، والضحاك، والزُّلف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول بل هي في غيرها. وقيل: الطرفان: الصبح والمغرب قاله ابن عباس أيضا، والزُّلف: العشاء وليست الظهر والعصر في الآية. وقيل: الطرفان: الظهر والعصر، والزُّلف: المغرب والعشاء والصبح. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأن هذا القائل راعى جهر القراءة أي وسريتها، قال: والأول أحسن هذه الأقوال عندي. ورجح الطبري أن الطرفين الصباح والمغرب، وأنه الظاهر، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى، انتهى، وتأمل وجه اعتراضه الاستدلال بهذه الآية مع أن أكثر الأقوال متظاهرة على أن الطرف الأول من النهار هو الصبح.
[1748]:- هذا مفهوم قوله تعالى: [حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود] أي حتى يتحقق.
[1749]:- وذلك ما ورد في الأحاديث الصحيحة كحديث البخاري ومسلم عن أنس بن مالك، وفيه لما قالوا له: إنك تواصل: (إنّي لست مثلكم، إنّي أَبِيتُ عند ربِّي يُطعمني ويَسقيني).
[1750]:- هذا هو المعتمد، قال شراح المختصر الخليلي عند قوله: "وكأكله شاكّا في الفجر". وأولى في الغروب، وهو مثال لما يجب فيه القضاء، ومحله إن لم يتبين أنه أكل قبل الفجر أو بعد الغروب، وإلا فلا قضاء عليه عند المالكية، وهو ما تدل عليه الآية الكريمة، لأن الله قال: [حتى يتبين لكم] وقد تبين أنه أكل قبل الفجر أو بعد الغروب.
[1751]:- هو للعجاج، وقد تقدم صدر هذا البيت ومعناه عند قوله تعالى: [وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين].
[1752]:- هو للطِّرمَّاح بن حكيم. وبنات الليل: الهموم. والصريع: المجنون.
[1753]:- هذا القول موافق لما قبله، لأن المساجد الثلاثة مساجد الأنبياء، فالمسجد الحرام مسجد إبراهيم عليه السلام، ومسجد المدينة مسجد محمد صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى مسجد سليمان عليه السلام.
[1754]:- وذلك أن النهي عن الشيء مقيدا بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطا في وقوعها، ونظير ذلك: «لا تضرب زيدا وأنت راكب فرسا» فلا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلا فرسا، فالاستدلال بالآية على لزوم الاعتكاف في المسجد ضعيف. وذكر المساجد ملصقة بالاعتكاف إنما هو لأن الاعتكاف لا يكون غالبا إلا فيها.
[1755]:- المرأة الحادّ والمحِدَّة: التي تترك الزينة بعد زوجها للعدة. قاله ابن دريد.