( ومن آياته خلق السماوات والأرض ، واختلاف ألسنتكم وألوانكم . إن في ذلك لآيات للعالمين ) . .
وآية خلق السماوات والأرض كثيرا ما يشار إليها في القرآن ، وكثيرا ما نمر عليها سراعا دون أن نتوقف أمامها طويلا . . ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق .
إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق ؛ الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل . هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات . تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل ! ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات ؛ وما بينها من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب ؛ وتجعل كل شيء في أمرها بمقدار .
ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام ، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها ؛ والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها . . فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان ؛ وما عرف عنه إلا أقل من القليل ، ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل !
هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعا . بينما نتحدث طويلا . وطويلا جدا . عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان ؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان ! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر . ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء ! من العلماء !
ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان . . بين بني الإنسان . ولا بد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض . فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات ذلك الاختلاف الناشى ء من طبيعة وضع الأرض الفلكي ، ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان . مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان .
وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والألوان ؛ ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله ، وآياته في خلق السماوت والأرض . وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية . ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن . ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون . ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) . وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لا يراها إلا الذين يعلمون : ( إن في ذلك لآيات للعالمين ) . .
يقول تعالى : ومن آيات قدرته العظيمة { خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خلق السموات في ارتفاعها واتساعها ، وشفوف أجرامها وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات ، والأرض في انخفاضها وكثافتها وما فيها من جبال وأودية ، وبحار وقفار ، وحيوان وأشجار .
وقوله : { وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ } يعني : اللغات ، فهؤلاء بلغة العرب ، وهؤلاء تَتَرٌ لهم لغة أخرى ، وهؤلاء كَرَج ، وهؤلاء روم ، وهؤلاء إفرنج ، وهؤلاء بَرْبر ، وهؤلاء تكْرور ، وهؤلاء حبشة ، وهؤلاء هنود ، وهؤلاء عجم ، وهؤلاء صقالبة ، وهؤلاء خزر ، وهؤلاء أرمن ، وهؤلاء أكراد ، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله من اختلاف لغات بني آدم ، واختلاف ألوانهم وهي حُلاهم ، فجميع أهل الأرض - بل أهل الدنيا - منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة : كل له عينان وحاجبان ، وأنف وجبين ، وفم وخدان . وليس يشبه واحد منهم الآخر ، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ، ظاهرا كان أو خفيا ، يظهر عند التأمل ، كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئة لا تشبه الأخرى . ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح{[22799]} ، لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر ، { إنَّ فِي ذَلِك لآيات للعَالَمين } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن حججه وأدلته أيضا على أنه لا يُعجزه شيء ، وأنه إذا شاء أمات من كان حيا من خلقه ، ثم إذا شاء أنشره وأعاده كما كان قبل إماتته إياه خلقه السموات والأرض من غير شيء أحدث ذلك منه ، بل بقدرته التي لا يمتنع معها عليه شيء أراده وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ يقول : واختلاف منطق ألسنتكم ولغاتها وألْوَانِكُمْ يقول : واختلاف ألوان أجسامكم إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ للْعالَمِينَ يقول : إن في فعله ذلك كذلك لعبرا وأدلة لخلقه الذين يعقلون أنه لا يعيبه إعادتهم لهيئتهم التي كانوا بها قبل مماتهم من بعد فنائهم . وقد بيّنا معنى العالمين فيما مضى قبل .
ثم نبه تعالى على خلق السماوات والأرض واختلاف اللغات والألوان وهذه عظم مواقع العبرة من هذه الآيات ، وقوله { وألوانكم } يحتمل أن يريد البياض والسواد وغيرهما ، ويحتمل أن يريد ضروب بني آدم وأنواعهم نعم وأشخاص الأخوة ونحوهم تختلف بالألوان ونعم الألسنة وبذلك تصح الشهادات والمداينات وتقع الفروق والتعيين فهكذا تبين النعمة ، وقرأ جمهور القراء «لَلعالمين » بفتح اللام ، وقرأ حفص عن عصام «لِلعالمين » بكسر اللام{[9295]} فالأولى على أن هذه الآية هي نفسها منصوبة لجميع العالم والثانية على معنى أن أهل الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم{[9296]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.