فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ} (22)

{ ومن آياته } الدالة على أمر البعث ، وما يتلوه من الجزاء { خلق السماوات والأرض } فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة بلا مادة مساعدة لها وجعلها باقية ما دامت هذه الدار ، وخلق فيها من عجائب الصنع وغرائب التكوين ، ما هو عبرة للمعتبرين ، قادر على أن يخلقكم بعد موتكم وينشركم من قبوركم . وقدم السماء على الأرض لأن السماء كالذكر ، فنزول المطر من السماء على الأرض كنزول المني من الذكر في المرأة ، لأن الأرض تنبت وتخضر بالمطر .

{ واختلاف ألسنتكم } أي : لغاتكم من عرب ، وعجم ، وترك ، وروم وغير ذلك ، بأن علم كل صنف لغته ، أو ألهمه وضعها وأقدره عليها أو أجناس النطق وأشكاله ، فإنك لا تكاد تسمع متكلمين متساوين في الكيفية من كل وجه .

{ وألوانكم } من البياض ، والسواد ، والحمرة ، والصفرة ، والشقرة ، والزرقة ، والخضرة ، مع كونكم أولاد رجل واحد ، وأم واحدة ، يجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية ، وفصل واحد وهو الناطقية ، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم ، لا يلتبس هذا بهذا ، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد ، حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما ، والأمور الملاقية لهما في التخليق ، يختلفان في شيء من ذلك لا محالة ، وإن كانا في غاية التشابه ، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلا العالمون ، ولا يفهمه إلا المتفكرون ولو اتفقت الأصوات ، والصور ، وتشاكلت ، وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت مصالح كثيرة ، ولم يعرف العدو من الصديق ، ولا القريب من البعيد ؛ فسبحان من خلق الخلق على ما أراد ، وكيف أراد ، وإنما نظم هذا في سلك الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض ، مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام ، في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم ؛ للإيذان باستقلاله ، والاحتراز عن توهم كونه من تتمات خلقهم .

{ إن في ذلك لآيات } لدلالات على قدرته تعالى { للعالمين } لعموم العلم فيهم ، قرئ بكسر اللام وبفتحها وهما سبعيتان . وقال الفراء للكسرة وجه جيد لأنه قد قال : لآيات لقوم يعقلون ، لآيات لأولي الألباب ، وما يعقلها إلا العالمون .