قوله تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } ، منعوا الناس عن طريق الحق ، { زدناهم عذاباً فوق العذاب } ، قال عبد الله : عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال . وقال سعيد بن جبير : حيات أمثال البخت ، وعقارب أمثال البغال ، تلسع إحداهن اللسعة ، يجد صاحبها حمتها أربعين خريفاً . وقال ابن عباس و مقاتل : يعني : خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار ، تسيل من تحت العرش ، يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل ، واثنان على مقدار النهار . وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير ، فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها . وقيل : يضاعف لهم العذاب . { بما كانوا يفسدون } ، في الدنيا بالكفر ، وصد الناس عن الإيمان .
ثم قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } ، أي : عذابا على كفرهم ، وعذابًا على صدهم الناس عن اتباع الحق ، كما قال تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] ، أي : ينهون الناس ، عن اتباعه ، ويبتعدون هم منه أيضًا ، { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [ الأنعام : 26 ] .
وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم ، كما قال [ الله ]{[16635]} تعالى : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] .
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سُرَيْح بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مُرَّة ، عن مسروق ، عن عبد الله في قول الله : { زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } ، قال : زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال{[16636]} .
وحدثنا سريج بن يونس ، حدثنا إبراهيم بن سليمان ، حدثنا الأعمش ، عن الحسن ، عن ابن عباس أنه قال : { زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } ، قال : هي خمسة أنهار
فوق{[16637]} العرش ، يعذبون ببعضها بالليل ، وببعضها بالنهار{[16638]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : الذين جحدوا يا محمد نبوّتك وكذّبوك فيما جئتهم به من عند ربك ، وصَدّوا عن الإيمان بالله وبرسوله ومن أراده ، زدناهم عذابا يوم القيامة في جهنم فوق العذاب الذي هم فيه ، قبل أن يزادوه . وقيل : تلك الزيادة التي وعدهم الله أن يزيدهموها ، عقارب وحيات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله : زِدْناهُمْ عَذَابا فَوْقَ العَذَابِ قال : عقارب لها أنياب كالنخل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية وابن عيينة ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله : { زِدْناهُمْ عَذَابا فَوْقَ العَذَابِ } ، قال : زِيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال .
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، نحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن السديّ ، عن مرّة ، عن عبد الله ، قال : { زِدْناهُمْ عَذَابا فَوْقَ العَذَابِ } قال : أفاعِيَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن مرّة عن عبد الله ، قال : أفاعيَ في النار .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مرّة ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا مجاهد بن موسى والفضل بن الصباح ، قالا : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، قال : إن لجهنم جِبابا فيها حيات أمثال البخت ، وعقارب أمثال البغال الدهم ، يستغيث أهل النار إلى تلك الجبِاب أو الساحل ، فتثب إليهم فتأخذ بشِفاههم وشفارهم إلى أقدامهم ، فيستغيثون منها إلى النار ، فيقولون : النارَ النارَ فتتبعهم حتى تجد حرّها فترجع ، قال : وهي في أسراب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني حَيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب ، أعناقها كأعناق البخت .
وقوله : { بِمَا كانُوا يُفْسِدُونَ } ، يقول : زدناهم ذلك العذاب على ما بهم من العذاب بما كانوا يفسدون ، بما كانوا في الدنيا يعصُون الله ويأمرون عباده بمعصيته ، فذلك كان إفسادهم ، اللهمّ إنا نسألك العافية ، يا مالك الدنيا والآخرة الباقية .
لما ذكر العذاب الذين هم لاقوه على كفرهم استأنف هنا بذكر زيادة العذاب لهم على الزّيادة في كفرهم بأنهم يصدّون الناس عن اتّباع الإسلام ، وهو المراد بالصدّ عن سبيل الله ، أي السبيل الموصلة إلى الله ، أي إلى الكون في أوليائه وحزبه . والمقصود : تنبيه المسلمين إلى كيدهم وإفسادهم ، والتّعريض بالتّحذير من الوقوع في شراكهم .
والتّعريف في قوله تعالى : { فوق العذاب } تعريف الجنس المعهود حيث تقدّم ذكره في قوله تعالى : { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب } [ سورة النحل : 85 ] ، لأن عذاب كفرهم لما كان معلوماً بكثرة الحديث عنه صار كالمعهود ؛ وأما عذاب صدّهم الناس فلا يخطر بالبال فكان مجهولاً فناسبه التنكير .
والباء في { بما كانوا يفسدون } للسببية . والمراد : إفسادهم الراغبين في الإسلام بتسويل البقاء على الكفر ، كما فعلوا مع الأعشى حين جاء مكّة راغباً في الإسلام مادحاً الرسول عليه الصلاة والسلام بقصيدة :
هَل اغتمضَتْ عيناك ليلةَ أرْمَدَا
وقصّته في كتب السيرة والأدب . وكما فعلوا مع عامر بن الطّفيل الدّوسي فإنه قدم مكّة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا : يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وقد فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا وإنما قوله كالسحر ، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنّه ولا تسمعَنّ منه . وقد ذكر في قصة إسلام أبي ذرّ كيف تعرّضوا له بالأذى في المسجد الحرام حين علموا إسلامه .