واستوثق ليوسف ملك مصر ، أي : اجتمع ، فأقام فيهم العدل ، وأحبه الرجال والنساء ، { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } ، يعني : أرض مصر ملكناه ، { يتبوأ منها } ، أي : ينزل { حيث يشاء } ويصنع فيها ما يشاء . قرأ ابن كثير : { نشاء } بالنون ردا على قوله : { مكنا } وقرأ الآخرون بالياء ردا على قوله { يتبوأ } . { نصيب برحمتنا من نشاء } ، أي : بنعمتنا ، { ولا نضيع أجر المحسنين } ، قال ابن عباس ووهب : يعني الصابرين . قال مجاهد وغيره : فلم يزل يوسف عليه السلام يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس . فهذا في الدنيا .
ثم نعود بعد هذا الاستطراد إلى صلب القصة وإلى صلب السياق . إن السياق لا يثبت أن الملك وافق . فكأنما يقول : إن الطلب تضمن الموافقة ! زيادة في تكريم يوسف ، وإظهار مكانته عند الملك . فيكفي أن يقول ليجاب ، بل ليكون قوله هو الجواب . . ومن ثم يحذف رد الملك ، ويدع القاريء يفهم أنه أصبح في المكان الذي طلبه .
ويؤيد هذا الذي نقوله تعقيب السياق :
( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء . ولا نضيع أجر المحسنين . . ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) . .
فعلى هذا النحو من إظهار براءة يوسف ، ومن إعجاب الملك به ، ومن الاستجابة له فيما طلب . . على هذا النحو مكنا ليوسف في الأرض ، وثبتنا قدميه ، وجعلنا له فيها مكانا ملحوظا . والأرض هي مصر . أو هي هذه الأرض كلها باعتبار أن مصر يومذاك أعظم ممالكها .
يتخذ منها المنزل الذي يريد ، والمكان الذي يريد ، والمكانة التي يريد . في مقابل الجب وما فيه من مخاوف ، والسجن وما فيه من قيود .
فنبدله من العسر يسرا ، ومن الضيق فرجا ، ومن الخوف أمنا ، ومن القيد حرية ، ومن الهوان على الناس عزا ومقاما عليا .
الذين يحسنون الإيمان بالله ، والتوكل عليه ، والاتجاه إليه ، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس . . هذا في الدنيا .
يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ } أي : أرض مصر ، { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } قال السُّدِّي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يتصرف فيها كيف يشاء . وقال ابن جرير : يتخذ منها منزلا حيث يشاء{[15215]} بعد الضيق والحبس والإسار .
{ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته ، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز ؛ فلهذا أعقبه الله عز وجل السلامة والنصر والتأييد ، { وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وهكذا وطأنا ليوسف في الأرض ، يعني أرض مصر . { يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ } يقول : يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء بعد الحبس والضيق . { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ } من خلقنا ، كما أصبنا يوسف بها ، فمكنّا له في الأرض بعد العبودة والإسار وبعد الإلقاء في الجبّ . { وَلا نُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ } يقول : ولا نُبطل جزاء عمل من أحسن فأطاع ربه وعمل بما أمره وانتهى عما نهاه عنه ، كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله . وكان تمكين الله ليوسف في الأرض ، كما :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قال يوسف للملك : { اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } قال الملك : قد فعلت فولاه فيما يذكرون عمل إطفير وعزل إطفير عما كان عليه ، يقول الله : وكذلكَ مَكّنا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ . . . الآية . قال : فذكر لي والله أعلم أن إطفير هلك في تلك الليالي ، وأن الملك الرّيان بن الوليد زوّج يوسف امرأة إطفير راعيل ، وأنها حين دخلت عليه قال : أليس هذا خير مما كنت تريدين ؟ قال : فيزعمون أنها قالت : أيها الصدّيق لا تلُمني ، فإني كنتُ امرأة كما ترى حُسنا وجمالاً ، ناعمة في مُلك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنتَ كما جعَلك الله في حُسنك وهيئتك ، فغلبتني نفسي على ما رأيت . فيزعمون أنه وجدها عذراء ، فأصابها ، فولدت له رجلين : إفراثيم بن يوسف ، وميشا بن يوسف .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : { وكذلكَ مَكّنا ليُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ } قال : استعمله الملك على مصر ، وكان صاحب أمرها ، وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله ، فذلك قوله : { وكذلكَ مَكنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يشاءُ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ } قال : ملكناه فيما يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا ، يصنع فيها ما يشاء ، فُوّضَتْ إليه . قال : ولو شاء أن يجعل فرعون من تحت يديه ، ويجعله فوقه لفعل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن مجاهد ، قال : أسلم الملك الذي كان معه يوسف .
وقوله تعالى : { وكذلك مكنا ليوسف } الآية ، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الفعال المنصوصة ، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض .
قال القاضي أبو محمد : فروي أن العزيز مات في تلك الليالي ، وقال ابن إسحاق : بل عزله الملك ثم مات أطفير ، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته ، فلما دخلت عليه عروساً قال لها : أليس هذا خيراً مما كنت أردت ؟ فقالت له : أيها الصديق كنت في غاية الجمال ، وكنت شابة عذراء ، وكان زوجي لا يطأ ، فغلبتني نفسي في حبك ، فدخل يوسف بها فوجدها بكراً ، وولدت له ولدين . وروي أن الملك عزل العزيز ، وولاه موضعه ، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع ، قال مجاهد : وأسلم الملك آخر أمره ، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه ، ومات وافتقرت زوجته ، وزمنت وشاخت ، فلما كان في بعض الأيام . لقيت يوسف في طريق ، والجنود حوله ووراءه ، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب { هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله ، وما أنا من المشركين }{[6734]} [ يوسف : 108 ] فصاحت به وقالت : سبحان من أعز العبيد بالطاعة ، وأذل الأرباب بالمعصية ، فعرفها ، وقالت له : تعطف عليَّ وارزقني شيئاً فدعاها وكلمها ، وأشفق لحالها ، ودعا الله تعالى ، فرد عليها جمالها وتزوجها .
قال القاضي أبو محمد : وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته ، ويطول الكلام بسوقه . وقرأ الجمهور : { حيث يشاء } على الإخبار عن يوسف ؛ وقرأ ابن كثير وحده { حيث نشاء } بالنون على ضمير المتكلم . أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه ، وحكى أبو حاتم هذه القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين ؛ وقال أبو علي : إما أن يكون تقدير هذه القراءة : حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات ، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها ؛ وإما أن يكون معناها : حيث يشاء يوسف ، لكن أضاف الله عز وجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده ، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }{[6735]} [ الأنفال : 17 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله من أبي علي نزعة اعتزالية ، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين ، فتأمله .
واللام في قوله : { مكنا ليوسف } يجوز أن تكون على حد التي في قوله { ردف لكم }{[6736]} [ النمل : 72 ] و { للرؤيا تعبرون }{[6737]} [ يوسف : 43 ] . وقوله : { يتبوأ } في موضع نصب على الحال ، و { حيث يشاء } نصب على الظرف أو على المفعول به ، كما قال الشماخ : حيث تكوى النواحز{[6738]} . وباقي الآية بين .
تقدم تفسير آية { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } آنفاً .
والتبوؤ : اتخاذ مكان للبوء ، أي الرجوع ، فمعنى التبوؤ النزول والإقامة . وتقدم في قوله تعالى : { أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا } في [ سورة يونس : 87 ] .
وقوله : { يتبوأ منها حيث يشاء } كناية عن تصرفه في جميع مملكة مصر فهو عند حلوله بمكان من المملكة لو شاء أن يحل بغيره لفعل ، فجملة { يتبوأ } يجوز أن تكون حالاً من { يوسف } ، ويجوز أن تكون بياناً لجملة { مكنا ليوسف في الأرض } .
وقرأ الجمهور { حيث يشاء } بياء الغيبة وقرأ ابن كثير { حيث نشاء } بنون العظمة ، أي حيث يشاء الله ، أي حيث نأمره أو نلهمه . والمعنى متحد لأنه لا يشاء إلا ما شاءه الله .
وجملة { نصيب برحمتنا من نشاء } إلى آخرها تذييل لمناسبة عمومه لخصوص ما أصاب يوسف عليه السلام من الرحمة في أحواله في الدنيا وما كان له من مواقف الإحسان التي كان ما أعطيه من النعم وشرف المنزلة جزاء لها في الدنيا ، لأن الله لا يضيع أجر المحسنين .