لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (56)

قوله عز وجل : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } وكذلك إشارة إلى ما تقدم ، يعني وكما أنعمنا على يوسف بأن أنجيناه من الجب وخلصناه من السجن وزيناه في عين الملك حتى قربه وأدنى منزلته كذلك مكنا له في الأرض يعني أرض مصر ؛ ومعنى التمكين هو أن لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره وإليه الإشارة بقوله { يتبوأ منها حيث يشاء } لأنه تفسير للتمكين .

قال ابن عباس وغيره لما انقضت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة دعاه الملك فتوَّجَهُ وقلده بسيفه وحلاه بخاتمه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعاً ، وعرضه عشرة أذرع ، ووضع له عليه ثلاثون فراشاً وستون مارياً ، وضرب له عليه كلة من استبرق ، وأمره أن يخرج فخرج متوجاً لونه كالثلج ووجه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه . فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت ليوسف الملوك وفوض الملك الأكبر إليه ملكه وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه .

قال ابن إسحاق : قال ابن زيد : وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلمها إلى يوسف ، وسلم له سلطانه كله ، وجعل أمره وقضاءه نافذاً في مملكته . قالوا ثم هلك قطفير عزيز مصر في تلك الليالي فزوج الملك يوسف امرأة العزيز بعد هلاكه . فلما دخل يوسف عليها قال : لها أليس هذا خيراً مما كنت تريدين ؟ قالت له : أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى ، في ملك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي وعصمك الله . قالوا : فوجدها يوسف عذراء ، فأصابها فولدت له ولدين ذكرين إفراثيم وميشا ، وهما ابنا يوسف منها . واستوثق ليوسف ملك مصر وأقام فيه العدل وأحبه الرجال والنساء . فلما اطمأن يوسف في ملكه ، دبر في جمع الطعام أحسن التدبير ، فبنى الحصون والبيوت الكثيرة ، وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة ، وأنفق المال بالمعروف حتى خلت السنين المخصبة ودخلت السنين المجدبة بهول وشدة لم ير الناس مثله ، وقيل : إنه دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار . فلما دخلت سنين القحط كان أول من أصابه الجوع الملك فجاع نصف النهار فنادى يا يوسف الجوع الجوع ، فقال يوسف : هذا أول أوان القحط . فهلك في السنة الأولى من أول سنين القحط كل ما أعدوه في السنين المخصبة ، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف . فباعهم في السنة الأولى بالنقود حتى لم يبق بمصر درهم ولا دينار إلا أخذه منهم ، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر في أيدي الناس منها شيء ، وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي والأنعام حتى لم تبق دابة ولا ماشية إلا احتوى عليها كلها ، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والجواري حتى لم يبق بأيدي الناس عبد ولا أمة ، وباعهم في السنة الخامسة بالضياع والعقار حتى أتى عليها كلها ، وباعهم في السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم ، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا ملكه ، فصاروا جميعهم عبيداً ليوسف عليه الصلاة والسلام . فقال أهل مصر : ما رأينا كاليوم ملكاً أجمل ولا أعظم من يوسف . فقال يوسف للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني ؟ فما ترى في هؤلاء ؟ قال الملك : الرأي رأيك ونحن لك تبع . قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم . وقيل : إن يوسف كان لا يشبع من الطعام في تلك الأيام ، فقيل له : أتجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال : أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع . وأمر يوسف طباخي الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائع ، فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار .

قال مجاهد : ولم يزل يوسف يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف به حتى أسلم الملك وكثير من الناس فذلك قوله سبحانه وتعالى : { وكذلك مكَّنَّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء } .

{ نصيب برحمتنا من نشاء } يعني نختص بنعمتنا وهي النبوة من نشاء يعني من عبادنا { ولا نضيع أجر المحسنين } قال ابن عباس يعني الصابرين .