الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (56)

قوله تعالى : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء } أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك ، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض ، أي أقدرناه على ما يريد . وقال الكيا الطبري قوله تعالى : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } دليل على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح ، وما فيه الغبطة والصلاح ، واستخراج الحقوق ، ومثله قوله تعالى : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث{[9183]} } [ ص : 44 ] وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر ، والذي أداه من التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله{[9184]} .

قلت : وهذا مردود على ما يأتي . يقال : مكناه ومكنا له ، قال الله تعالى : { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم{[9185]} } [ الأنعام : 6 ] . قال الطبري : استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريان يوسف على عمل إطفير وعزله ، قال مجاهد : وأسلم على يديه . قال ابن عباس : ملكه بعد سنة ونصف . وروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن يوسف قال : إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ) . ثم مات إطفير فزوجه الوليد بزوجة إطفير راعيل ، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء ، وولدت له ولدين : إفراثيم ومنشا ، ابني يوسف ، ومن زعم أنها زليخاء قال : لم يتزوجها يوسف ، وأنها لما رأته في موكبه بكت ، ثم قالت : الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية ، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا ، فضمها إليه ، فكانت من عياله حتى ماتت عنده ، ولم يتزوجها ، ذكره الماوردي . وهو خلاف ما تقدم عن وهب ، وذكره الثعلبي ، فالله أعلم . ولما فوض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطف بالناس ، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به ، وأقام فيهم العدل ، فأحبه الرجال والنساء . قال وهب والسدي وابن عباس وغيرهم : ثم دخلت السنون المخصبة ، فأمر يوسف بإصلاح المزارع ، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة ، فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت ، ثم بنى لها الأهرام ، فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها ، ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك ، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال : يا أهل مصر جوعوا ، فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين .

وقال بعض أهل الحكمة : للجوع والقحط علامتان : إحداهما : أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة ، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك ، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية . والثانية : أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية ، فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف ، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع ! ! ويأكلون ولا يشبعون ، وانتبه الملك ينادي الجوع الجوع ! ! قال : فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك ، ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها : معاشر الناس ! لا يزرع أحد زرعا فيضيع البذر ولا يطلع شيء . وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف ، قال ابن عباس : لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل ، فهتف الملك يا يوسف ! الجوع الجوع ! ! فقال يوسف : هذا أوان القحط ، فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة ، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف ، فباعهم أول سنة بالنقود ، حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه ، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر ، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء ، وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب ، حتى احتوى عليها أجمع ، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء ، حتى احتوى على الكل ، وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع ، حتى ملكها كلها ، وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم ، حتى لم يبق في السنة السابعة{[9186]} بمصر حر ولا عبد إلا صار عبدا له ، فقال الناس : والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا ، فقال يوسف لملك مصر : كيف رأيت صنع ربي فيما خولني ! والآن كل هذا لك ، فما ترى فيه ؟ فقال : فوضت إليك الأمر فافعل ما شئت ، وإنما نحن لك تبع ، وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك ، ولا أنا إلا من بعض مماليكك ، وخول من خولك ، فقال يوسف عليه السلام : إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم ، ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء ؛ وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ، ووددت عليهم أموالهم وأملاكهم ، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي . ويروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنين ، فقيل له : أتجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال : إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع ، وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار ، حتى يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين ، فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار .

قوله تعالى : { نصيب برحمتنا من نشاء } أي بإحساننا ، والرحمة النعمة والإحسان .

قوله تعالى : { ولا نضيع أجر المحسنين } أي ثوابهم . وقال ابن عباس ووهب : يعني الصابرين ؛ لصبره في الجب ، وفي الرق ، وفي السجن ، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة . وقال الماوردي : واختلف فيما أوتيه يوسف من هذه الحال على قولين : أحدهما : أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه . الثاني : أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه ، وثوابه باق على حاله في الآخرة .


[9183]:راجع ج15 ص 212.
[9184]:الحديث: هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، وهو نوع جيد من أنواع التمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل تمر خيبر هكذا" فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين بالثلاثة، فقال: "لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا". (البخاري).
[9185]:راجع ج 6 ص 391.
[9186]:من ع.