قوله تعالى : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } اختلفوا في معنى الخشوع ، فقال ابن عباس : مخبتون أذلاء . وقال الحسن وقتادة : خائفون . وقال مقاتل : متواضعون . وقال مجاهد : هو غض البصر وخفض الصوت . والخشوع قريب من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن ، والخشوع في القلب والبدن والبصر والصوت ، قال الله عز وجل : { وخشعت الأصوات للرحمن } وعن علي رضي الله عنه : هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً . وقال سعيد بن جبير : هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله ، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، أنبأنا أبو الأحوص ، أنبأنا أشعث بن سليم ، عن أبيه ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال :هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد " .
وأخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا أبو علي زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو الحسن القاسم بن بكر الطيالسي ببغداد ، أنبأنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي ، أنبأنا عبد الغفار بن عبيد الله ، أنبأنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن أبي الأحوص ، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال الله مقبلاً على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه " . وقال عمرو بن دينار : هو السكون وحسن الهيئة . وقال ابن سيرين وغيره : هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك . وقال أبو هريرة : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ، فلما نزل الذين هم في صلاتهم خاشعون رموا بأبصارهم إلى مواضع السجود " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا علي بن عبد الله ، أنبأنا يحيى بن سعيد ، أنبأنا ابن أبي عروبة ، أنبأنا قتادة أن أنس ابن مالك حدثهم قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ، فاشتد قوله في ذلك حتى لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم " . وقال عطاء : هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، أنبأنا أبو العباس المحبوبي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا سعيد ، عن عبد الرحمن المخزومي ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أبي الأحوص ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه " . وقيل : الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة ، والإعراض عما سواها ، والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر .
( الذين هم في صلاتهم خاشعون ) . . تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله ، فتسكن وتخشع ، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات . ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته ، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل ، ولا تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه . ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم ، فلا يشهدون إلا الله ، ولا يحسون إلا إياه ، ولا يتذوقون إلا معناه . ويتطهر وجدانهم من كل دنس ، وينفضون عنهم كل شائبة ؛ فما يضمون جوانحهم على شيء من هذا مع جلال الله . . عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها ، وتجد الروح الحائرة طريقها ، ويعرف القلب الموحش مثواه . وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله .
{ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } " قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { خَاشِعُونَ } : خائفون ساكنون . وكذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والزهري{[20453]} .
وعن علي بن أبي طالب ، رَضِي الله عنه : الخشوعُ : خشوعُ القلبِ . وكذا قال إبراهيم النخعي .
وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم ، وخفضوا الجناح .
وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم .
[ و ]{[20454]} قال ابن سيرين : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مُصَلاه ، فإن كان قد اعتاد النظر فَلْيُغْمِضْ . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم رَوَى{[20455]} ابن جرير عنه ، وعن عطاء بن أبي رَبَاح أيضًا مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، حتى نزلت هذه الآية .
والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فَرَّغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة له وقُرَّة عين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حُبِّبَ إليَّ الطِّيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة " {[20456]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سالم بن أبي الجَعْد ،
عن رجل من أسلَم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا بلال ، أرحنا بالصلاة " {[20457]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا ؛ حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، عن سالم ابن أبي الجعد ، أن محمد بن الحنفية قال : دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار ، فحَضَرت الصلاة ، فقال : يا جارية ، ائتني بوَضُوء لعلي أصلي فأستريح . فرآنا{[20458]} أنكرنا عليه ذلك{[20459]} ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قم يا بلال ، فأرحنا بالصلاة " {[20460]} .
وقوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ يقول تعالى ذكره : الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته ، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها . وقيل : إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها ، فنُهُوا بهذه الاَية عن ذلك . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت خالدا ، عن محمد بن سيرين ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى نظر إلى السماء ، فأنزلت هذه الاَية : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن أبي جعفر ، عن الحجاج الصوّاف ، عن ابن سيرين ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فقالوا بعد ذلك برؤوسهم هكذا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال : «نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت آية إن لم تكن الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فلا أدري أية آية هي قال : فطأطأ » . قال : وقال محمد : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصْره مصّلاه ، فإن كان قد استعاد رالنظر فليغْمِض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، عن محمد نحوه .
واختلف أهل التأويل في الذي عني به في هذا الموضع من الخشوع ، فقال بعضهم : عني به سكون الأطراف في الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : السكون فيها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : سكون المرء في صلاته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، عن الثوريّ ، عن أبي سفيان الشيباني ، عن رجل ، عن عليّ ، قال : سئل عن قوله : الّذِينَ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : لا تلتفت في صلاتك .
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرمليّ ، قال : قال ضَمْرة بن ربيعة ، عن أبي شَوْذب ، عن الحسن ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجَناح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم ، في قوله : خاشعُونَ قال : الخشوع في القلب ، وقال : ساكنون .
قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني خالد بن عبد الله ، عن المسعوديّ ، عن أبي سنان ، عن رجل من قومه ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : الخشوع في القلب ، وأن تُلِين للمرء المسلم كَنَفك ، ولا تلتفت .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جرَيج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشعُونَ قال : التخشع في الصلاة . وقال لي غير عطاء : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر عن يمينه ويساره ووُجاهه ، حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فما رُؤي بعد ذلك ينظر إلاّ إلى الأرض .
وقال آخرون : عني به الخوف في هذا الموضع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : خائفون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشِعُونَ قال الحسن : خائفون . وقال قتادة : الخشوع في القلب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ حاشعُونَ يقول : خائفون ساكنون .
وقد بيّنا فيما مضى قبل من كتابنا أن الخشوع التذلل والخضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر ، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام ما وصفت مِنْ قَبْلُ من أنه : والذين هم في صلاتهم متذللّون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته ، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فيها .