قوله تعالى : { يا أيها الناس ضرب مثل } معنى ضرب : جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس ، وضرب الجزية على أهل الذمة ، أي : جعل ذلك عليهم . ومعنى الآية : جعل لي شبه ، وشبه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها ومعنى { فاستمعوا له } أي : فاستمعوا حالها وصفتها . ثم بين ذلك فقال : { إن الذين تدعون من دون الله } يعني : الأصنام ، قرأ يعقوب بالياء والباقون بالتاء { لن يخلقوا ذباباً } واحداً في صغره وقلته لأنها لا تقدر عليه . والذباب : واحد وجمعه القليل : أذبة ، والكثير : ذباب ، مثل غراب وأغربة ، وغربان { ولو اجتمعوا له } أي : لخلقه { وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه } قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه . وقال السدي : كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه . وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بألوان الطيب فربما تسقط منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر اللآلهة على استردادها ، فذلك قوله : { وإن يسلبهم الذباب شيئاً } أي : وإن يسلب الذباب الأصنام شيئاً مما عليها لا يقدرون أن يستنقذوه منه ، { ضعف الطالب والمطلوب } قال ابن عباس : الطالب الذباب . يطلب ما يسلب من الطيب من الصنم ، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب . وقيل : على العكس :الطالب الصنم و المطلوب الذباب . وقال الضحاك : الطالب العابد والمطلوب المعبود .
ثم يعلن في الآفاق ، على الناس جميعا ، إعلانا مدويا عاما . . يعلن عن ضعف الآلهة المدعاة ؛ الآلهة كلها التي يتخذها الناس من دون الله . ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها أولئك الظالمون ، ويركن إليها أولئك الغاشمون . يعلن عن هذا الضعف في صورة مثل معروض للأسماع والأبصار ، مصور في مشهد شاخص متحرك ، تتملاه العيون والقلوب . . مشهد يرسم الضعف المزري ويمثله أبرع تمثيل :
( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) . .
إنه النداء العام ، والنفير البعيد الصدى : ( يا أيها الناس ) . . فإذا تجمع الناس على النداء أعلنوا أنهم أمام مثل عام يضرب ، لا حالة خاصة ولا مناسبة حاضرة : ( ضرب مثل فاستمعوا له ) . . هذا المثل يضع قاعدة ، ويقرر حقيقة . ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) . . كل من تدعون من دون الله من آلهة مدعاة . من أصنام وأوثان ، ومن أشخاص وقيم وأوضاع ، تستنصرون بها من دون الله ، وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه . . كلهم ( لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) . . والذباب صغير حقير ؛ ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون - ولو اجتمعوا وتساندوا - على خلق هذا الذباب الصغير الحقير !
وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل . لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة . فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل . . ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل ! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير . وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب !
ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري : ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) . . والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه ، سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا ! وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس فلا يملكون رده . وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير . وهوفي الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلى النفائس : يسلب العيون والجوارح ، وقد يسلب الحياة والأرواح . . إنه يحمل ميكروب السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد . . ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير !
وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز . . ولو قال : وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها . . لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف . والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب ! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب !
ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب : ( ضعف الطالب والمطلوب ) . ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال ، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب !
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } أي : لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي : أنصتوا وتفهموا ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي : لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك . كما قال الإمام أحمد .
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعة ، عن أبي هريرة - رفع الحديث - قال : " ومن أظلم ممن خلق [ خلقا ]{[20415]} كخلقي ؟ فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة ، أو ذبابة ، أو حَبَّة " {[20416]} .
وأخرجه صاحبا الصحيح ، من طريق عُمَارة ، عن أبي زُرْعةَ ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة " {[20417]} .
ثم قال تعالى أيضا : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } أي : هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه ، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك . هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا [ قال : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } ] {[20418]} .
قال ابن عباس : الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب . واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق . وقال السدي وغيره : الطالب : العابد ، والمطلوب : الصنم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس جعل لله مثل وذكر . ومعنى «ضرب » في هذا الموضع : «جعل » من قولهم : ضرب السلطان على الناس البعث ، بمعنى : جعل عليهم . وضرب الجزية على النصارى ، بمعنى جَعْل ذلك عليهم والمَثَل : الشبّهَ ، يقول جلّ ثناؤه : جعل لي شبه أيها الناس ، يعني بالشبّه والمَثَل : الاَلهة ، يقول : جعل لي المشركون والأصنام شبها ، فعبدوها معي وأشركوها في عبادتي . فاسْتَمِعُوا له يقول : فاستمعوا حال ما مثلوه وجعلوه في عبادتهم إياه شبها وصفته . إنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابا يقول : إن جميع ما تعبدون من دون الله من الاَلهة والأصنام لو جمعت لم يخلقوا ذبابا في صغره وقلّته ، لأنها لا تقدر على ذلك ولا تطيقه ، ولو اجتمع لخلقه جميعها . والذباب واحد ، وجمعه في القلة أذبة وفي الكثير ذِبّان ، نظير غُراب يجمع في القلة أَغْربة وفي الكثرة غِرْبان .
وقوله : وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذّبابُ شَيْئا يقول : وإن يسلب الاَلهة والأوثان الذبابُ شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه من شيء لا يستنقذوه منه : يقول : لا تقدر الاَلهة أن تستنقذ ذلك منه .
واختلف في معنى قوله : ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ فقال بعضهم : عني بالطالب : الاَلهة ، وبالمطلوب : الذباب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال ابن عباس ، في قوله : ضَعُفَ الطّالِبُ قال : آلهتهم . وَالمَطْلُوبُ : الذباب .
وكان بعضهم يقول : معنى ذلك : ضَعُفَ الطّالِبُ من بني آدم إلى الصنم حاجته ، والمَطْلُوبُ إليه الصنم أن يعطي سائله من بني آدم ما سأله ، يقول : ضعف عن ذلك وعجز .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عباس من أن معناه : وعجز الطالب وهو الاَلهة أن تستنقذ من الذباب ما سلبها إياه ، وهو الطيب وما أشبهه والمطلوب : الذباب .
وإنما قلت هذا القول أولى بتأويل ذلك ، لأن ذلك في سياق الخبر عن الاَلهة والذباب فأن يكون ذلك خبرا عما هو به متصل أشبه من أن يكون خبرا عما هو عنه منقطع . وإنما أخبر جلّ ثناؤه عن الاَلهة بما أخبر به عنها في هذه الاَية من ضعفها ومهانتها ، تقريعا منه بذلك عَبَدتها من مشركي قريش ، يقول تعالى ذكره : كيف يجعل مثل في العبادة ويشرك فيها معي ما لا قدرة له على خلق ذباب ، وإن أخذ له الذباب فسلبه شيئا عليه لم يقدر أن يمتنع منه ولا ينتصر ، وأنا الخالق ما في السموات والأرض ومالكٌ جميع ذلك ، والمحيي من أردت والمميت ما أردت ومن أردت . إن فاعل ذلك لا شكّ أنه في غاية الجهل .