قوله تعالى : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } إلى طاعته ، { وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } قال ابن سيرين : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله . وقال الحسن : هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه ، وعمل صالحاً في إجابته ، وقال : إنني من المسلمين . وقالت عائشة : أرى هذه الآية نزلت في المؤذنين . وقال عكرمة : هو المؤذن أبو أمامة الباهلي ، وعمل صالحاً صلى ركعتين بين الأذان والإقامة . وقال قيس بن أبي حازم : هو الصلاة بين الأذان والإقامة .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي ، حدثنا أبو يحيى ابن أبي ميسرة ، حدثنا عبد الله بن زيد المقصري ، حدثنا كهمس بن الحسن ، عن عبد الله ابن بريدة بن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بين كل أذانين صلاة ، ثلاث مرات ثم قال في الثالثة : لمن شاء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال سفيان : لا أعلمه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة " .
ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله ، ووصف روحه ولفظه ، وحديثه وأدبه . ويوجه إليها رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وكل داعية من أمته . وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين وسوء أدبهم ، وتبجحهم النكير . ليقول للداعية : هذا هو منهجك مهما كانت الأمور :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال : إنني من المسلمين ! ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم ) .
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله ، في مواجهة التواءات النفس البشرية ، وجهلها ، واعتزازها بما ألفت ، واستكبارها أن يقال : إنها كانت على ضلالة ، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها ، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد ، كل البشر أمامه سواء .
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق . ولكنه شأن عظيم :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ، وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين ) .
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض ، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء . ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ؛ ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات . فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ .
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض ، أو بسوء الأدب ، أو بالتبجح في الإنكار . فهو إنما يتقدم بالحسنة . فهو في المقام الرفيع ؛ وغيره يتقدم بالسيئة . فهو في المكان الدون :
يقول تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } أي : دعا عباد الله إليه ، { وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : وهو في نفسه مهتد بما يقوله ، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومُتَعَدٍ ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، وينهون عن المنكر ويأتونه ، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى . وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك ، كما قال محمد بن سيرين ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقيل : المراد بها المؤذنون الصلحاء ، كما ثبت في صحيح مسلم : " المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة " {[25723]} وفي السنن مرفوعا : " الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، فأرشد الله الأئمة ، وغفر للمؤذنين " {[25724]} .
وقال{[25725]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عَرُوبَة الهروي ، حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن مطر ، عن الحسن ، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : " سهام المؤذنين عند الله يوم القيامة كسهام المجاهدين ، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله في دمه " .
قال : وقال ابن مسعود : " لو كنت مؤذنا ما باليت ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد " .
قال : وقال عمر بن الخطاب : لو كنت مؤذنا لكمل أمري ، وما باليت ألا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم اغفر للمؤذنين " ثلاثا ، قال : فقلت : يا رسول الله ، تركتنا ، ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف . قال : " كلا يا عمر ، إنه يأتي {[25726]} على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم ، وتلك لحوم حرمها الله على النار ، لحوم المؤذنين " {[25727]} .
قال : وقالت عائشة : ولهم هذه الآية : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قالت : فهو المؤذن إذا قال : " حي على الصلاة " فقد دعا إلى الله .
وهكذا قال ابن عمر ، وعكرمة : إنها نزلت في المؤذنين .
وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه ، أنه قال في قوله : { وَعَمِلَ صَالِحًا } قال : يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة .
ثم أورد البغوي حديث " عبد الله بن المغفل " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بين كل أذانين صلاة " . ثم قال في الثالثة : " لمن شاء " {[25728]} وقد أخرجه الجماعة في كتبهم ، من حديث عبد الله بن بريدة ، عنه{[25729]} وحديث الثوري ، عن زيد العمي ، عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال الثوري : لا أراه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة " .
ورواه أبو داود والترمذي ، والنسائي في " اليوم والليلة " كلهم من حديث الثوري ، به{[25730]} . وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن أنس ، به{[25731]} .
والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية ؛ لأنها مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه ، فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا ، كما هو مقرر في موضعه ، فالصحيح إذًا أنها عامة ، كما قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن البصري : أنه تلا هذه الآية : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فقال : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خِيَرَة الله ، هذا أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال : إنني من المسلمين ، هذا خليفة الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.