قوله تعالى : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين * ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } .
المسألة الأولى : أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدئ حيث قالوا للرسول { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك ، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة ، فقالوا { لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه } وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية ، والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات ، ثم إنه سبحانه وتعالى بين أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة ، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة ، فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات ، وعبر عن هذا المعنى فقال : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة . وفيه وجه آخر وهو أن مراتب السعادات اثنان : التام ، وفوق التام ، أما التام : فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته ، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام ، إذا عرفت هذا فنقول إن قوله { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } إشارة إلى المرتبة الأولى ، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها ، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين ، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق ، وهو المراد من قوله { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } فهذا أيضا وجه حسن في نظم هذه الآيات .
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ونصابا وافيا من العلوم الإلهية الكشفية ، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن .
المسألة الثانية : من الناس من قال المراد من قوله { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من قال هم المؤذنون ، ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق فهو داخل فيه ، والدعوة إلى الله مراتب :
فالمرتبة الأولى : دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها : أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولا ، ثم الدعوة بالسيف ثانيا ، وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين ( وثانيها ) أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة ، وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء ، والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل ( وثالثها ) أن نفوسهم أقوى قوة ، وأرواحهم أصفى جوهرا ، فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل ، فكانت دعوتهم أفضل ( ورابعها ) أن النفوس على ثلاثة أقسام : ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين وكاملة تقوى على تكميل الناقصين ( فالقسم الأول ) العوام ( والقسم الثاني ) هم الأولياء ( والقسم الثالث ) هم الأنبياء ، ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم : «علماء أمتي كأنبياء إسرائيل » وإذا عرفت هذا فنقول : إن نفس الأنبياء حصلت لها مزيتان : الكمال في الذات ، والتكميل للغير ، فكانت قوتهم على الدعوة أقوى ، وكانت درجاتهم أفضل وأكمل ، إذا عرفت هذا فنقول : الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان : العلم والقدرة ، أما العلماء ، فهم نواب الأنبياء في العلم ، وأما الملوك ، فهم نواب الأنبياء في القدرة ، والعلم يوجب الاستيلاء على الأرواح ، والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد ، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأرواح ، والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد . وإذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى الله بعد الأنبياء درجة العلماء ، ثم العلماء على ثلاثة أقسام : العلماء بالله ، والعلماء بصفات الله ، والعلماء بأحكام الله . أما العلماء بالله ، فهم الحكماء الذين قال الله تعالى في حقهم { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } وأما العلماء بصفات الله تعالى فهم أصحاب الأصول ، وأما العلماء بأحكام الله فهم الفقهاء ، ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا نهاية لها ، فلهذا السبب كان للدعوة إلى الله درجات لا نهاية لها ، وأما الملوك فهم أيضا يدعون إلى دين الله بالسيف ، وذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار ، وإما بإبقائه عند وجوده وذلك مثل قولنا المرتد يقتل ، وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولا ضعيفا ، أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة ، فكان ذلك داخلا تحت الدعاء إلى الله ، وأما كون هذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات وبتقدير أن يكون محيطا بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة ، فهذا هو الكلام ، في مراتب الدعوة إلى الله .
المسألة الثالثة : قوله { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سواها ، إذا عرفت هذا فنقول : كل ما كان أحسن الأعمال وجب أن يكون واجبا ، لأن كل ما لا يكون واجبا فالواجب أحسن منه ، فثبت أن كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ، إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمتقضى هذه الآية ، وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ، ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة ، ثم نقول الأذان دعوة إلى الله والدعوة إليه واجبة فينتج الأذان واجب ، واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب ، وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية ، والدليل القاطع عليه أن لدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال ، وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال ، لأن الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان ، ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو الأذان .
المسألة الرابعة : اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء الله ، فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير ومن أحسن قولا ممن قال إني من المسلمين ، فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال ، ولو كان قولنا إن شاء الله معتبرا في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية .
المسألة الخامسة : الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة ( أولها ) الدعوة إلى الله ( وثانيها ) العمل الصالح ( وثالثها ) أن يكون من المسلمين ، أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية .
وأما قوله { وعمل صالحا } فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة ، أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات .
وأما قوله { وقال إنني من المسلمين } فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان ، فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة ( أحدها ) الإقرار باللسان ، ( والثاني ) الأعمال الصالحة بالجوارح ( والثالث ) الاعتقاد الحق بالقلب ( والرابع ) الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله ، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم ، وكمال الدرجة في هذه المراتب الأربعة ليس إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.