محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (33)

{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي لا أحد أحسن مقالا ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى ، وكان من الصالحين المؤتمرين ، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد .

لطائف :

الأولى - قال القاشانيّ : وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل ، لكونه أشرف المراتب ، ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي . وإلا لما صحت الدعوة . انتهى .

الثانية - في الآية إشارة إلى ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن المشركين ، وعما كانوا يقولونه من اللغو في التنزيل ، مما قصه تعالى عنهم فيما تقدم . وإرشاده إلى المواظبة على التبليغ ، والدعوة ، ببيان أن ذلك أحسن الطاعات ورأس العبادات . فهذا هو سر انتظام هذه الآية في إثر ما سبق . وثمة وجه آخر . وهو أن مراتب السعادات اثنان : كامل وأكمل . أما الكامل فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته . فإذا فرغ من هذه الدرجة ، اشتغل بعدها بتكميل الناقصين . فقوله تعالى : {[6424]} { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } إشارة إلى المرتبة الأولى ، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها . فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة ، وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية ، وهي الانتقال بتكميل الناقصين . وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق . وهو المراد من قوله تعالى : { ومن أحسن قولا } الآية .

واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ، ونصيبا وافيا من العلوم الإلهية ، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن ، أفاده الرازي .

/ الثالثة - يدخل في الآية كل من دعا إلى الله تعالى بطريق من الطرق المشروعة ، وسبيل من السبل المأثورة . لأن الدعوة الصحيحة هي الدعوة النبوية . ثم ما انتهج منهجا في الصدع بالحق ، وإيثاره على الخلق .

الرابعة- في الآية دليل على وجوب الدعوة إلى الله تعالى - على ما قرره الرازي - لأن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال . وكل ما كان أحسن الأعمال ، فهو واجب .

الخامسة - احتج من جوز قول ( أنا مسلم ) بدون تعليق على المشيئة ، بهذه الآية . وقال : إطلاقها يدل على أن ذلك هو الأوْلى . والمسألة معروفة بسطها الغزاليّ في ( الإحياء ) . وللأمام ابن حزم في ( الفِصَل ) تحقيق لطيف لا بأس بإيراده . قال رحمه الله : اختلف الناس في قول المسلم ( أنا مؤمن ) فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ومن بعده من الفقهاء ، أنه كره ذلك . وكان يقول ( أنا مؤمن إن شاء الله ) وقال بعضهم : آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله . وكانوا يقولون : من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة .

ثم قال ابن حزم : والقول عندنا في هذه المسألة ، أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه . فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبكل ما أتى به عليه السلام . وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك . كما أمر تعالى ، إذ قال تعالى : { وأما بنعمة ربك فحدث } ولا نعمة أوكد ، ولا أفضل ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام . فواجب عليه أن يقول ( أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى ، في وقتي هذا ) ولا فرق بين قوله ( أنا مؤمن مسلم ) وبين قوله ( أنا أسود وأنا أبيض ) وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها . وليس هذا من باب الامتداح والتعجب في شيء . لأنه فرض عليه أن يحصن دمه بشهادة التوحيد . قال تعالى : {[6425]} { قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم / وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } وقول ابن مسعود عندنا صحيح . لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات فإنما منع ابن مسعود من القول أنه ( مسلم مؤمن ) على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات . وهذا صحيح . ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك . وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء ( إني مؤمن ) بمعنى مصدق . كيف ؟ وهو يقول ( قل آمنت بالله ورسوله ) أي صدقت . وأما من قال فقل إنك في الجنة ، فالجواب أننا نقول : إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك . وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنة والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة . إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن من مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان . ولا ندري ماذا نكسب غدا . ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى .


[6424]:[41 / فصلت / 30]. و [46 / الأحقاف / 13].
[6425]:[2 / البقرة / 136].