{ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } ، معناه : وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل ، أي : من أخبارهم وأخبار أممهم نقصها عليك لنثبت به فؤادك ، لنزيدك يقينا ونقوي قلبك ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصبر على أذى قومه . قوله تعالى : { جاءك في هذه الحق } ، قال الحسن وقتادة : في هذه الدنيا . وقال غيرهما : في هذه السورة . وهذا قول الأكثرين . خص هذه السورة تشريفا ، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور . { وموعظة } ، أي : وجاءتك موعظة ، { وذكرى للمؤمنين } .
والخاتمة الأخيرة . خطاب للرسول [ ص ] عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين . فأما الذين لا يؤمنون فليلق إليهم كلمته الأخيرة ، وليفاصلهم مفاصلة حاسمة ، وليخل بينهم وبين ما ينتظرهم في غيب الله . ثم ليعبد الله وليتوكل عليه ، ويدع القوم لما يعملون . .
)وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين . وقل للذين لا يؤمنون : اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ، وانتظروا إنا منتظرون . ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبده وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون ) . .
ويا لله للرسول [ ص ] لقد كان يجد من قومه ، ومن انحرافات النفوس ، ومن أعباء الدعوة ، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه - وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه - :
( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) . .
أي في هذه السورة . . الحق من أمر الدعوة ، ومن قصص الرسل ، ومن سنن الله ، ومن تصديق البشرى والوعيد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكلا نقص عليك من أنباء الرسل} وأممهم، وما يذكر في هذه السورة، {ما نثبت به فؤادك}، يعني: قلبك أنه حق، فذلك قوله: {وجاءك في هذه} السورة {الحق}، مما ذكر من أمر الرسل وأمر قومهم، {وموعظة}، يعني: ما عذب الله به الأمم الخالية، وما ذكر في هذه السورة فهو موعظة، يعني: مأدبة لهذه الأمة، {وذكرى}، يعني: وتذكرة، {للمؤمنين}، يعني: للمصدقين بتوحيد الله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وكُلاّ نَقْصّ عَلَيْكَ}، يا محمد، {مِنْ أنْباءِ الرّسُلِ} الذين كانوا قبلك، {ما نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}، فلا تجزع من تكذيب من كذّبك من قومك وردّ عليك ما جئتهم به، ولا يضق صدرك فتترك بعض ما أنزلت إليك من أجل أن قالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أوْ جاء مَعَهُ مَلَكٌ}، إذا علمت ما لقي من قبلك من رسلي من أممها. وأما قوله: {وَجاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقّ}، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: وجاءك في هذه السورة الحقّ.
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاءك في هذه الدنيا الحقّ. وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: وجاءك في هذه السورة الحقّ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله. فإن قال قائل: أو لم يجئ النبي صلى الله عليه وسلم الحقّ من سورة القرآن إلا في هذه السورة، فيقال: وجاءك في هذه السورة الحقّ؟ قيل له: بلى قد جاءه فيها كلها. فإن قال: فما وجه خصوصه إذن في هذه السورة بقوله: {وَجاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقّ}؟ قيل: إن معنى الكلام: وجاءك في هذه السورة الحقّ مع ما جاءك في سائر سور القرآن، أو إلى ما جاءك من الحقّ في سائر سور القرآن، لا أن معناه: وجاءك في هذه السورة الحقّ دون سائر سور القرآن. وقوله: {وَمَوعِظَةٌ}، يقول: وجاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله وتبين لهم عِبره ممن كفر به وكذّب رسله. {وَذِكْرَى للْمؤمِنِينَ}، يقول: وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله، كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(ما نثبت به فؤادك) يحتمل وجوها:...
والثاني: قص عليه أنباء الرسل واحدا بعد واحد ليثبت به فؤاده ليعلم كيفية معاملتهم، وماذا لقوا من قومهم، وكيف صبروا على أذاهم ليصبر هو على ما صبر أولئك، وليعامل هو قومه بمثل معاملتهم...
(وجاءك في هذه الحق) قال بعضهم: (وجاءك في هذه) أي في هذه الأنباء التي قصها عليك؛ جاءك فيها (الحق) وهو ما ذكرنا.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وكلاً نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبتُ به فؤادك} أي نقوّي به قلبك وتسكن إليه نفسك، لأنهم بُلُوا فصبروا، وجاهدوا فظفروا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والقصص: الخبر عن الأمور بما يتلو بعضه بعضا، مأخوذا من قصه يقصه إذا اتبع أثره، ومنه قوله "قالت لأخته قصيه "أي اتبعي أثره. والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر بما فيه عظم الشأن، وكذلك يقولون لهذا الأمر نبأ. والتثبيت: تمكين إقامة الشيء، ثبته تثبيتا إذا مكنه...
ومعنى الآية: الاعتبار بقصص الرسل لما فيه من حسن صبرهم على أمتهم واجتهادهم في دعائهم إلى عبادة الله مع الحق الذي من عمل عليه نجا، ومع الوعظ الذي يلين القلب لسلوك طريق الحق، ومع تذكر الخير والشر، وما يدعو إليه كل واحد منهما في عاقبة النفع أو الضرر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سكَّنَ قلبه بما قصَّ عليه من أنباء المرسلين، وعرَّفه أنه لم يُرَقِّ أحداً إلى المحلِّ الذي رقّاه إليه، ولم يُنْعِمْ على أحد بمثل ما أنعم عليه. ويقال قَصَّ عليه قِصَصَ الجميع، ولم يذكر قصَته لأحد تعريفاً له وتخصيصاً.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وكلا نقص عليك} أي كل الذي تحتاج إليه {من أنباء الرسل} نقص عليك {ما نثبت به فؤادك} ليزيدك يقينا {وجاءك في هذه} أي في هذه السورة {الحق} يعني ما ذكر من أقاصيص الأنبياء ومواعظهم وذكر السعادة والشقاوة وهذا تشريف لهذه السورة لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق {وموعظة وذكرى للمؤمنين} يتعظون إذا سمعوا هذه السورة وما نزل بالأمم لما كذبوا أنبياءهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ووجه تخصيص هذه السورة بوصفها ب {الحق} -والقرآن كله حق- أن ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر، أي جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الظالمة، وهذا كما يقال عند الشدائد: جاء الحق وإن كان الحق يأتي في غير شديدة وغير ما وجه، ولا يستعمل في ذلك: جاء الحق، ثم وصف أيضاً أن ما تضمنته السورة هي {موعظة وذكرى للمؤمنين}؛ فهذا يؤيد أن لفظة {الحق} إنما تختص بما تضمنت من وعيد للكفرة...
اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة.
الفائدة الأولى: تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك لأن الإنسان إذا ابتلى بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركا خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول هذه القصص، وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا، سهل عليه تحمل الأذى من قومه، وأمكنه الصبر عليه.
والفائدة الثانية: قوله: {وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}...
واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك، لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالا مما ذكر في سائر السور، ولو لم يكن فيها إلا قوله: {فاستقم كما أمرت} لكان الأمر كما ذكرنا، ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة الحق والموعظة والذكرى.
أما الحق: فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة.
وأما الذكرى: فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة.
وأما الموعظة: فهي إشارة إلى التنفير من الدنيا وتقبيح أحوالها في الدار الآخرة، والمذكرة لما هنالك من السعادة والشقاوة، وذلك لأن الروح إنما جاء من ذلك العالم إلا أنه لاستغراقه في محبة الجسد في هذا العالم نسي أحوال ذلك العالم فالكلام الإلهي يذكره أحوال ذلك العالم، فلهذا السبب صح إطلاق لفظ الذكر عليه.
ثم ههنا دقيقة أخرى عجيبة: وهي أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل ومن موجب، وقابلها هو القلب، والقلب ما لم يكن كامل الاستعداد لقبول تلك المعارف الإلهية والتجليات القدسية، لم يحصل الانتفاع بسماع الدلائل، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر إصلاح القلب، وهو تثبيت الفؤاد، ثم لما ذكر صلاح حال القابل، أردفه بذكر الموجب، وهو مجيء هذه السورة المشتملة على الحق والموعظة والذكرى، وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه بما فعل بالقرى الظالمة، وحذر كل من فعل أفعالهم بسطواته في الدنيا والآخرة، وأمر باتباع أمره والاعراض عن اختلافهم الذي حكم به وأراده، عطف على قوله {نقصه عليك} قوله: {وكلاًّ نقص} أي ونقص {عليك} كل نبأ أي خبر عظيم جداً {من أنباء الرسل} مع أممهم: صالحيهم وفاسديهم، فعم تفخيماً للأمر، ولما كان الذي جرّ هذه القصص ما مضى من قوله: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك}، وكان ساكن الصدر القلب، وهو الفؤاد الذي به قوام الإنسان بل الحيوان، وهو أحرّ ما فيه، ولذا عبر عنه بما اشتق من الفأد وهو الحر، وكان من لازم الحرارة الاضطراب والتقلب الذي اشتق منه القلب فيضيق به الصدر، أبدل من {كلاًّ} قوله: {ما نثبت} أي تثبيتاً عظيماً {به فؤادك} أي فيسكن في موضعه ويطمئن أو يزداد يقينه فلا يضيق الصدر من قولهم {لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} ونحوه، و بهذا تبين أن المراد بذلك العام خاص لحصوله المقصود به، وهو التسلية نظراً إلى قوله تعالى {وضائق به صدرك} لأن المشاركة في الأمور الصعبة تهون على الإنسان ما يلقى من الأذى، والإعلام بعقوبات المكذبين فيها تأنيس للمكروب؛ والتثبيت: تمكين إقامة الشيء؛ والفؤاد: العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب الحال فيه، من المفتأد وهو المستوي. ولما بين أن كل ما قص عليه من أخبارهم يستلزم هذا المقصود، بين أنه ليس كما يعلل به غالباً من الأخبار الفارغة والأحاديث المزخرفة الباطلة ولا مما ينقله المؤرخون مشوباً بالتحريف فقال: {وجاءك في هذه} أي الأخبار {الحق} أي الكامل في الثبات الذي لا مرية فيه، وفائدة الظرف التأكيد لعظم المقصود من آية {فلعلك} وصعوبته. ولما كان الحق حقاً بالنسبة إلى كل أحد عرفه ونكر ما هو خاص بقوم دون قوم فقال: {وموعظة} أي مرقق للقلوب {وذكرى} أي تذكير عظيم جداً {للمؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، وقد تضمنت الآية الاعتبار من قصص الرسل بما فيها من حسن صبرهم على أممهم واجتهادهم على دعائهم إلى عبادة الله بالحق وتذكير الخير والشر وما يدعو إليه كل منهما من عاقبة النفع والضر للثبات على ذلك جميعه اقتداء بهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وكلا نقص عليك من أنباء الرسل} أي وكل نوع من أنباء الرسل نقص عليك ونحدثك به على وجهه الذي يعلم من تتبعه واستقصائه به، فإن معنى القص في الأصل تتبع أثر الشيء للإحاطة به، ومنه {وقالت لأخته قصيه} [القصص: 11] ثم قيل: قص خبره إذا حدث به على وجهه الذي استقصاه، والنبأ الخبر المهم، فهذه الكلية تشمل أنواع الأنباء المفيدة من قصص الرسل الصحيحة في صورها الكلامية وأساليبها البيانية، وأنواع فوائدها العلمية، وعبرها ومواعظها النفسية، دون الأمور العادية المستغنى عن ذكرها، كالتي تراها في سفر التكوين الذين يعدونه من التوراة وأمثاله.
{ما نثبت به فؤادك} أي نقص منها عليك ما نثبت به فؤادك، أي نقويه ونجعله راسخا في ثباته كالجبل في القيام بأعباء الرسالة ونشر الدعوة بما في هذه القصص من زيادة العلم بسنن الله في الأقوام، وما قاساه رسلهم من الإيذاء فصبروا صبر الكرام.
{وجاءك في هذه الحق} أي في هذه السورة، وهو المروي عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري من الصحابة وسعيد بن جبير والحسن البصري من التابعين وعليه الجمهور. وقيل: في هذه الأنباء المقتصة عليك بيان الحق الذي دعا إليه جميع أولئك الرسل من أصل دين الله وأركانه، وهو توحيده بعبادته وحده، واتقائه، واستغفاره، والتوبة إليه، وترك ما يسخطه من الفواحش والمنكرات والظلم والإجرام، والإيمان بالبعث والجزاء الصالح.
{وموعظة وذكرى للمؤمنين} الذي يتعظون بما حل بالأمم من عقاب الله، ويتذكرون ما فيها من عاقبة الظلم والفساد، ونصره تعالى لمن نصره، ونصر رسله، فالمؤمنون هنا يشمل من كانوا آمنوا بالفعل، والمستعدين للإيمان الذين آمنوا بهذه الموعظة والذكرى كالذين آمنوا بعد، وفي هذه الآية من إعجاز الإيجاز، ما يناسب إعجاز تلك القصص التي جمعت فوائدها بهذه الكلمات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والخاتمة الأخيرة. خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين. فأما الذين لا يؤمنون فليلق إليهم كلمته الأخيرة، وليفاصلهم مفاصلة حاسمة، وليخل بينهم وبين ما ينتظرهم في غيب الله. ثم ليعبد الله وليتوكل عليه، ويدع القوم لما يعملون..) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين. وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون. ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون).. ويا لله للرسول صلى الله عليه وسلم لقد كان يجد من قومه، ومن انحرافات النفوس، ومن أعباء الدعوة، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه -وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه -: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك).. وجاءك في هذه الحق.. أي في هذه السورة.. الحق من أمر الدعوة، ومن قصص الرسل، ومن سنن الله، ومن تصديق البشرى والوعيد. وموعظة وذكرى للمؤمنين.. تعظهم بما سلف في القرون وتذكرهم بسنن الله وأوامره ونواهيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتثبيت فؤاد الرّسول صلى الله عليه وسلم زيادة يقينه ومعلوماته بما وعده الله لأن كل ما يعاد ذكره من قصص الأنبياء وأحوال أممهم معهم يزيده تذكراً وعلماً بأنّ حاله جار على سنن الأنبياء وازداد تذكراً بأنّ عاقبته النصر على أعدائه، وتجدّد تسلية على ما يلقاه من قومه من التكذيب وذلك يزيده صبراً. والصبر: تثبيت الفؤاد. وأنّ تماثل أحوال الأمم تلقاء دعوة أنبيائها مع اختلاف العصور يزيده علماً بأنّ مراتب العقول البشريّة متفاوتة، وأن قبول الهدي هو منتهى ارتقاء العقل، فيعلم أن الاختلاف شنشنة قديمة في البشر، وأنّ المصارعة بين الحق والباطل شأن قديم، وهي من النواميس التي جُبِلَ عليها النظام البشري، فلا يُحْزنه مخالفة قومه عليه، ويزيده علماً بسمُوّ أتباعه الذين قبلوا هداه، واعتصموا من دينه بعراه، فجاءه في مثل قصة موسى عليه السّلام واختلاف أهل الكتاب فيه بيان الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين فلا يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}. فكأن الثمرات لهذا القصص الصادق ثلاث:
الأولى: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم إزاء إنكار المشركين وإيذائهم للنبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين فإن أولئك الرسل أوذوا كما أوذي، وكانت الباقية لهم وللمتقين فليطمئن النبي عليه الصلاة والسلام إلى العاقبة، ولا يغرنك تقلبهم في البلاد فالعاقبة لك ولأصحابك، ومعنى تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم زيادة تثبيته بأنه لم يكن بدعا من الرسل، وإذا كان الله تعالى قد عذب أقوام الأنبياء الصادقين بالعذاب الذي يجتث من فوق الأرض العصاة، فإنه سيعذب قومك بأمر إرادي كذلك لينتفي الظالمون، فيحصدون بالسيف، ويبقى غيرهم ممن يرجى أن يكون منهم أو من أصلابهم من يعبد الله.
الثانية: الموعظة، وهي الاتعاظ بمن أنزل الله تعالى عليهم العذاب، والاتعاظ طريق الإيمان، ومن لم يتعظ بغيره، فالبلاء في نفسه شديد، وهذا الاتعاظ للمؤمنين أي الذين في قلوبهم اتجاه إلى الإيمان.
الثالثة: الذكرى، أي التذكر الدائم المستمر لما نزل بالأقوام الظالمة. وهذه أيضا للمؤمنين والذين يتجهون بقلب مدرك للإيمان، هذه ثمرات القصص. وقد ذكر الله تعالى بعد تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل موعظة المؤمنين، {وجاءك في هذه الحق} مؤكدا أن هذه الإيتاء هو الحق الكامل الذي لا حق فوقه لأنه ثابت صادق، وفيه التثبيت والموعظة، والتذكر الدائم، وقد أكد سبحانه، وتعالى أنه الحق ب {ال} التي تدل على أنه كمال الحق لا ريب فيه {في هذه} أكثر المفسرين على أن الإشارة إلى السورة، لأنها اشتملت على قصص مفصل لبعض الأنبياء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا تلخّص لنا نهاية السورة الدور القصصي الذي تضمنته، والنتيجة المرعبة التي تنتظر غير المؤمنين، ويحتمل غموض التهديد الصادر عن الله أن يحدث أي شيء من الذي يملك الأمر كله، وإليه ترجع العبادة كلها، فهو في حضور دائم، في كل شيء، ومع كل شيء. {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} الذين سبقوك في المرحلة، فبلّغوا وعملوا وواجهوا كل أنواع التحدّي والتمرُّد، وثبتوا في مواقع الاهتزاز، وانتصر الله لهم في أكثر من موقف، فوقفوا في الموقع القويّ الذي زادهم قوةً إلى قوّتهم. ولكن ما مهمة هذا العرض القصصي؟؟ هل هو مجرد حكاية التاريخ، وسرد أحداثه، أو هو تخطيطٌ إلهيّ لتثبيت موقف النبي، أمام الهزات النفسية التي قد يتعرض لها أمام التحديات الصعبة التي تواجه حركة الرسالة؟ إن الله يثبت لنا الشقّ الأخير في المسألة، فالقرآن كتابٌ رساليٌّ يخطّط للرسول طريقه، في التفكير والإحساس، ويوجه السائرين على خط الرسول أن يقفوا في مواقع الثبات والقوّة أمام حالات التحدي، لأن سرد التاريخ الرساليّ أمام الرساليين يجعلهم يستشعرون الخط الثابت الذي تتحرك فيه الرسالات فيسيرون عليه امتداداً لحركة التاريخ في ما يلتقي فيه الأنبياء في خط الدعوة والتغيير. {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} فلا يقترب إليك القلق، ولا يدنو منك الاهتزاز، وفي هذا بعض الإيحاء بأن الله يربّي نبيّه بآياته أمام ما يمكن أن يعانيه من مشاعر سلبيّة في مواجهة واقع صعب يتحداه، بوصفه بشراً يتأثر بما حوله من دون أن يغيّر ذلك شيئاً من طبيعة الموقف، فيأتي القرآن ليفتح قلبه على الأفق الرحب من التاريخ، ليبدع تاريخاً جديداً منفتحاً للرسالة، وهذا ما ينبغي للرساليين أن يواجهوه عند قراءة التاريخ الرسالي في القرآن، حيث التجربة الرسالية النبويّة التي تفتح القلوب على الله، وتحرّك المشاعر في اتجاه النور. دور القرآن في حياة الإنسان {وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ} الآيات {الْحَقُّ} الذي يحتوي كل المفاهيم المتعلقة بقضايا الإنسان في الكون والحياة بالطريقة التي تحتوي الخير كله، وتلتقي بالثبات كله، فلا مجال للاهتزاز ولا للاختلاط بالباطل في أي اتجاه، {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} في ما يفتح قلوبهم على الله، واليوم الآخر، فتخشع قلوبهم لذكر الله، وترتعد فرائصهم للحديث عن عقابه، وتنتعش أرواحهم لذكر ثوابه، فتلتقي الموعظة بالذكرى في عملية انفتاحٍ وتأمّلٍ وتدبُّرٍ وتذكُّرٍ لقضية المصير في الآخرة. وهذا هو دور القرآن في حياة الإنسان، فهو لا يغفل حركة الإنسانية في أعماقه، ولكنه يفتح لها الافاق التي تجعلها تبدع وترقّ وتصفو، وتثير المشاعر في اتجاه التركيز المصيري للحياة في عملية تنمية وتوعية وتذكير...