قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك } الآية ، قال الكلبي : اجتمع أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية وأبي ابنا خلف ، والحارث ابن عامر ، يستمعون القرآن فقالوا للنضر : يا أبا قبيلة ما يقول محمد ؟ قال : ما أدري ما يقول ، إلا أني أراه يحرك لسانه ، ويقول أساطير الأولين ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها ، فقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقول حقاً ، فقال أبو جهل : كلا ، لا تقر بشيء من هذا ، وفي رواية : الموت أهون علينا من هذا ، فأنزل الله عز وجل : { ومنهم من يستمع إليك } وإلى كلامك .
قوله تعالى : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } ، أغطية جمع كنان ، كالأعنة جمع عنان .
قوله تعالى : { أن يفقهوه } ، أن يعلموه ، قيل : معناه أن لا يفقهوه ، وقيل : كراهة أن يفقهوه .
قوله تعالى : { وفي آذانهم وقراً } ، صمماً وثقلاً ، وهذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب ، فيشرح بعضها للهدى ، ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن . قوله تعالى : { وإن يروا كل آية } ، من المعجزات والدلالات .
قوله تعالى : { لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين } ، يعني : أحاديثهم وأقاصيصهم ، والأساطير جمع : أسطورة ، وإسطارة . وقيل الأساطير : هي الترهات والأباطيل ، وأصلها من سطرت ، أي : كتبت .
ويمضي السياق يصور حال فريق من المشركين ؛ ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة . . يصور حالهم وهم يستمعون القرآن معطلي الإدراك ، مطموسي الفطرة ، معاندين مكابرين ، يجادلون رسول الله [ ص ] وهم على هذا النحو من الاستغلاق والعناد ، ويدعون على هذا القرآن الكريم أنه أساطير الأولين ؛ وينأون عن سماعه وينهون غيرهم عنه أيضا . . يصور حالهم هكذا في الدنيا في صفحة ، وفي الصفحة الأخرى يرسم لهم مشهدا كئيبا مكروبا ؛ وهم موقوفون على النار محبوسون عليها ، وهي تواجههم بهول المصير الرعيب ؛ وهم يتهافتون متخاذلين ؛ ويتهاوون متحسرين ؛ يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيكون لهم موقف غير ذلك الموقف ، الذي انتهى بهم إلى هذا المصير . فيردون عن هذا التمني بالتصغير والتحقير :
( ومنهم من يستمع إليك ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، حتى إذا جاؤوك يجادلونك ، يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين . وهم ينهون عنه وينأون عنه ، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون . ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ! بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون ) . . إنهما صفحتان متقابلتان : صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض ؛ وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة . . يرسمها السياق القرآني ، ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي ؛ ويخاطب بهما الفطر الجاسية ؛ ويهز بها هذه الفطر هزا ، لعل الركام الذي ران عليها يتساقط ، ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح ، ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان .
( ومنهم من يستمع إليك ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ) . .
والأكنة : الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه ؛ والوقر : الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع . .
وهذه النماذج البشرية التي تستمع ؛ ولكنها لا تفقه ، كأن ليس لها قلوب تدرك ؛ وكأن ليس لها آذان تسمع . . نماذج مكرورة في البشرية في كل جيل وفي كل قبيل ، في كل زمان وفي كل مكان . . إنهم أناسي من بني آدم . . ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه . كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها . وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان !
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . حتى إذا جاؤوك يجادلونك . يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين . .
فأعينهم ترى كذلك . ولكن كأنها لا تبصر . أو كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم !
فما الذي أصاب القوم يا ترى ؟ ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة . بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول ؟ يقول الله - سبحانه - :
( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها )
وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه ؛ وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له ، مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان .
غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء . . إنه سبحانه يقول : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . .
ويقول : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ) . . فشأن الله - سبحانه - أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى ؛ وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها . . فأما هؤلاء فلم يتوجهوا إلى الهدى ليهديهم الله ؛ ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم ، فييسر الله لهم الاستجابة . . هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء ؛ فجعل الله بينهم وبين الهدى حجابا ؛ وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى . . وكل شيء إنما يكون بأمر الله . ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد ، وأن يفلح من يتزكى . ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . . والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم ، وعلى قضائه فيهم ، إنما يغالطون في هذه الإحالة . والله سبحانه يجبههم بالحق ، وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها : ( وقال الذين أشركوا : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دونه من شيء . كذلك فعل الذين من قبلهم . فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ؟ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، فمنهم من هدى الله ، ومنهم من حقت عليه الضلالة ، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) . . فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم ؛ وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم - بعد النذارة - بفعلهم . .
والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر ، والجبر والاختيار ، وإرادة العبد وكسبه . . ليجعلوا منها مباحث لاهوتية ، تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات ، إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة ؛ التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله ؛ وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها ، والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه ؛ وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضا ، فتكون . . وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله . . ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به . . وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء !
والمشركون كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان ، في هذا القرآن ، الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق ؛ وهي وحدها كانت كفيلة - لو اتجهت إليها قلوبهم - أن توقع على أوتار هذه القلوب ، وأن تهز فيها المدارك الغافية فتوقظها وتحييها ، لتتلقى وتستجيب . . إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا ؛ بل عطلوا فطرتهم وحوافزها ؛ فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجابا ؛ وصاروا حين يجيئون إلى الرسول [ ص ] لا يجيئون مفتوحي الأعين والآذان والقلوب ؛ ليتدبروا ما يقوله لهم تدبر الباحث عن الحق ؛ ولكن ليجادلوا ويتلمسوا أسباب الرد والتكذيب :
( حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين ) . .
والأساطير جمع أسطورة . وكانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالألهة والأبطال في قصص الوثنيات . وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها .
وهم كانوا يعلمون جيدا أن هذا القرآن ليس بأساطير الأولين . ولكنهم إنما كانوا يجادلون ؛ ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب ؛ ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة . . وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصا عن الرسل وأقوامهم ؛ وعن مصارع الغابرين من المكذبين . فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب ، قالوا عن هذا القصص وعن القرآن كله : ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) !
وإمعانا في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن ، وتثبيت هذه الفرية . . فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين . . كان مالك بن النضر ، وهو يحفظ أساطير فارسية عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس الأسطوريين ، يجلس مجلسا قريبا من رسول الله [ ص ] وهو يتلو القرآن . فيقول للناس : إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين ، فعندي أحسن منها ! ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير ، ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومنهم}، يعني كفار مكة، {من يستمع إليك} وأنت تتلو القرآن... {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه}، يعني الغطاء عن القلب، لئلا يفقهوا القرآن، {وفي آذانهم وقرا}: ثقلا، فلا يسمعوا... ثم قال: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها}، يعني انشقاق القمر، والدخان، فلا يصدقوا بأنها من الله عز وجل، {حتى إذا جاءوك يجادلونك} في القرآن بأنه ليس من الله، {يقول} الله: قال: {الذين كفروا}: {إن هذا} القرآن {إلا أساطير الأولين}: يعني أحاديث الأولين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومن هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام من قومك يا محمد "من يستمع إليك": من يستمع القرآن منك، ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك وأمره ونهيه، ولا يفقه ما تقول ولا يوعيه قلبه، ولا يتدبره ولا يصغي له سمعه ليتفقهه فيفهم حجج الله عليه في تنزيله الذي أنزله عليك، إنما يسمع صوتك وقراءتك وكلامك، ولا يعقل عنك ما تقول، لأن الله قد جعل على قلبه أكنّة، وهي جمع كنان، وهو الغطاء مثل سنان وأسنة، يقال منه: أكننت الشيء في نفسي بالألف، وكنَنَتُ الشيء إذا غطيته، ومن ذلك "بَيْضٌ مَكْنُونٌ "وهو الغطاء.
"وفِي آذَانهِمْ وَقْرا": وجعل في آذانهم ثقلاً وصمما عن فهم ما تتلو عليهم والإصغاء لما تدعوهم إليه. والعرب تفتح الواو من «الوَقْر» في الأذن: وهو الثقل فيها، وتكسرها في الحمل، فتقول: هو وِقْر الدابة، ويقال من الحِمل: أوقرت الدابة فهي مُوقَرة، ومن السمع: وَقرت سمعه فهو موقور. "وَجَعَلْنا على قُلوبِهِمْ أكِنّةً أنْ يَفْقَهُوهُ" بمعنى: أن لا يفقهوه، كما قال: "يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا" بمعنى: أن لا تضلوا، لأن الكنّ إنما جعل على القلب لئلا يفقهه لا ليفقهه.
عن قتادة: "وَجَعَلْنا على قُلوبِهِمْ أكِنّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وَقْرا" قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئا، كمثل البهيمة التي تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها.
عن السديّ: "وَجَعَلْنا على قُلوبِهِمْ أكِنّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وَقْرا" أما أكنة: فالغطاء أكنّ قلوبهم لا يفقهون الحقّ، "وفِي آذَانِهِمْ وَقْرا" قال: صمم.
عن مجاهد في قول الله: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ" قال: قريش.
"وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حتى إذَا جَاءُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ": وإن هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام، الذين جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك، "كُلّ آيَةٍ": كل حجة وعلامة تدلّ أهل الحِجا والفهم على توحيد الله وصدق قولك وحقيقة نبّوتك "لا يُؤْمِنُوا بِها": لا يصدّقون بها ولا يقرّون بأنها دالة على ما هي عليه دالة. "حتى إذَا جَاءُوكَ يُجادِلُونَكَ": حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الآيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به "يجادلونك": يخاصمونك. "يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا" يعني بذلك الذين جحدوا آيات الله وأنكروا حقيقتها، يقولون لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا حجج الله التي احتجّ بها عليهم وبيانه الذي بينه لهم: "إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ": ما هذا إلاّ أساطير الأوّلين. والأساطير: جمع إسْطارة وأُسْطورة مثل أفكوهة وأضحوكة، وجائز أن يكون الواحد أسطارا مثل أبيات وأبابيت وأقوال وأقاويل، من قول الله تعالى: "وكِتابٍ مَسْطُورٍ". فإن كان من هذا، فإن تأويله: ما هذا إلاّ ما كتبه الأوّلون. وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأوّلونه بهذا التأويل، ويقولون معناه: إن هذا إلاّ أحاديث الأوّلين.
عن السديّ، أما: "أساطِيرُ الأوّلِينَ" فأساجيع الأوّلين.
وكان بعض أهل العلم -وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى- بكلام العرب يقول: الإسطارة: لغة الخرافات والترّهات...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومنهم من يستمع إليك} يحتمل وجوها. أحدها: كانوا يستمعون إليه ليجادلوه على ما ذكر {حتى إذا جاءوك يجادلونك} دل هذا أنهم كانوا يستمعون إليه للمجادلة معه والخصومة. وقيل في بعض الحكايات أن الناس كانوا ثلاث فرق في أخبار الرسل والأنبياء عليهم السلام؛ منهم من يستمع للجمع والاستكثار، ومنهم من يستمع ليأخذ عليهم سقطاتهم وما يجري على لسانهم من الخطأ، ومنهم من يستمع ليأخذ الحق منه، ويترك الباقي. لكن هؤلاء يستمعون إليه ليخاصموا في ذلك، وليجادلوه ليعرف قومهم أنهم يستمعون إليه، ويعرفون ما يقول ليصدوا بذلك أتباعهم. والثاني: يستمعون، ويحاجون في ذلك ليعرفوا أنهم أهل حجاج وعلم ليصدوهم عنه. ثم يحتمل أن يكونوا أهل نفاق لأنهم كانوا يرون يظهرون الموافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويضمرون الخلاف له. ويحتمل [أن يكونوا] أهل الشرك أي رؤساءهم يستمعون إليه، ويجادلونه في ما يستمعون إليه.
{وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} [أخبر أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا]، وقال {صم بكم عمي} [البقرة: 18 و 171] نفى عنهم ذلك لما [لم] ينتفعوا بذلك كله. وإن لم يكونوا في الحقيقة صما ولا بكما ولا ما ذكر لما لم ينتفعوا بما أنشأ فيهم من السمع والبصر والعقل فنفى عنهم ذلك...
{وجعلنا على قلوبهم أكنة} لا تخلو إضافة ذلك إلى نفسه من أن يكون خلق منهم فعل الكفر، أو خلق الظلمة في قلوبهم؛ يعني ظلمة الكفر لأن ظلمة الكفر تستر، وتغطي كل شيء، ونور الإيمان ينير منه كل شيء. فإضافة الفعل إليه لا تخلو من أحد هذين الوجهين؛ إما لخلق فعل الكفر منهم ففيه دلالة خلق أفعالهم، وإما لخلق ظلمة الكفر في قلوبهم ففيه رد قول المعتزلة لإنكارهم خلق فعل العباد...
{وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} يحتمل {كل آية} آية وحدانيته وربوبيته وقدرته على البعث وآية رسالة ونبوته. ويحتمل {كل آية} سألوا أن يأتي بها؛ يقول: وإن أوتيت بكل آية سألوك لا يؤمنوا بك بعد ذلك أبدا كقولهم: {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [الفرقان: 21] ونحو ذلك مما سألوا من الآيات؛ يقول: وإن جئت بما سألوك من الآيات لا [يؤمنوا بك، ولا يصدقوك، ويقولوا]: {إن هذا إلا أساطير الأولين} قيل: أحاديث الأولين. والأسطورة: الكتاب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بيَّنَ أن السمعَ -في الحقيقة- سمعُ القبول، وذلك عن عين اليقين يصدر، فأما سَمْعُ الظاهر فلا عِبْرَةَ به. ويقال مَنْ ابتلاه الحقُّ بقلبٍ مطبق، ووضع فوق بصيرته غطاءَ التلبيس لم يزدْه ذلك إلا نفرة على نفرة. {وَإِن يَرَوا كُلَّ آيةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني: مَنْ أَقصَته القسمة الأزلية لم تنعشه الحيلة الأبدية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله: {وَجَعَلْنَا} للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم {وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5]...
{حتى إِذَا جاءوك يجادلونك} هي حتى التي تقع بعدها الجمل. والجملة قوله: {إِذَا جاءوك} {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} و {يجادلونك} موضع الحال. ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاءوك في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: يقول {الذين كفروا} وتفسير له. والمعنى بأنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} فيجعلون كلام الله وهو أصدق الحديث، خرافات وأكاذيب، وهي الغاية في التكذيب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...وهذا عبارة عما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلط والبعد عن قبول الخير، لا أنهم لم يكونوا سامعين لأقواله، وقوله تعالى: {وإن يروا كل آية} الآية، الرؤية هنا رؤية العين، يريد كانشقاق القمر وشبهه.
ومقصد هذه الآية أنهم في أعجز درجة وحاولوا رد الحق بالدعوى المجردة، والواو في قوله {وجعلنا} واو الحال والباب أن يصرح معها بقد، وقد تجيء أحياناً مقدرة، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال ومن هؤلاء الكفرة من يستمعك وهو من الغباوة في حد قلبه في كنان وأذنه صماء وهو يرى الآيات فلا يؤمن بها لكنه مع بلوغه الغاية من هذه القصور إذا جاء للمجادلة قابل بدعوى مجردة، والمجادلة: المقابلة في الاحتجاج مأخوذ من الجدل، و {هذا} في قولهم إشارة إلى القرآن، والأساطير جمع أسطار كأقوال وأقاويل ونحوه... والمعنى أخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ، وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية عن رستم والسندباد، ومجادلة الكفار كانت مرادّتهم نور الله بأفواههم المبطلة.
المسألة الرابعة: اعلم أنه كان مقصود القوم من ذكر قولهم {إن هذا إلا أساطير الأولين} القدح في كون القرآن معجزا فكأنهم قالوا: إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة، والقصص المذكورة للأولين، وإذا كان هذا من جنس تلك الكتب المشتملة على حكايات الأولين وأقاصيص الأقدمين لم يكن معجزا خارقا للعادة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علم أن هذه الآيات قد ترابطت حتى كانت آية واحدة، وختم بأن مضمون قوله {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} [الأنعام: 5] -الآية، قد صار وصفاً لهم ثابتاً حتى ظهر في يوم الجمع، قسم الموسومين بما كانت تلك الآية سبباً له، وهو الإعراض عن الآيات المذكور في قوله {إلاّ كانوا عنها معرضين} [الأنعام: 4]، فكان كأنه قيل: فمنهم من أعرض بكليته، فعطف عليه قوله: {ومنهم من يستمع إليك}... ولما ذكر ما يتعلق بالسمع، ذكر ما يظهر للعين، معبراً بما يعم السمع وغيره من أسباب العلم فقال: {وإن يروا} أي بالبصر أو البصيرة {كل آية} أي من آياتنا سواه {لا يؤمنوا بها}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كان المشركون أصنافا متفاوتين في الفهم والعقل وفي الكفر وأسبابه، وقد بين الله أحوال كل فريق منهم في كتابه فمنهم أصحاب الذكاء واللوذعية الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ويعقلون أنه لا يمكن أن يكون من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو بالذي يستطيع الإتيان بمثله في نظمه وفصاحته وبلاغته، ولا في علومه وحكمه ومعارفه، إذ لو كان مثله مما تصل إليه قدرته لظهر على لسانه شيء من مثله أو ما يقرب منه فيما مضى من حياته – وهو أربعون سنة ونيف -. وقد أمره الله تعالى أن يقيم عليهم هذه الحجة بقوله: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} [يونس: 17] وما كان كفر أمثال هؤلاء إلا عن كبر وعناد ومكابرة للحق. ومنهم من كان يعرض عن سماع القرآن خشية أن يؤثر في قلبه، وينتزعه من الدين الذي ألفه طول عمره، ومنهم من كان يصغي سمعه إلى القرآن بقصد الاكتشاف والاختبار، ولكنه لا يعقل المراد منه، ولا يفقه حججه وبيناته، إما لعدم توجه ذهنه إلى ذلك لعراقته في التقليد والأنس بما درج عليه الآباء وهو الأكثر، وإما للبلادة وانحطاط الفكر عن التسامي إلى هذه المعارف العالية فيه، وكان هذا قليلا في العرب ولا سيما أهل مكة وهم أفصح قريش التي هي أفصح العرب.
وقد بين الله تعالى حال هذا الفريق الذي لم يكن حظه من الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا كحظ النعم من سماع أصوات البشر فقال: {ومنهم من يستمع إليك} أيها الرسول إذا تلوت القرآن داعيا إلى توحيد الله منذرا يوم القيامة {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي أذانهم وقرا} أي وجعلنا على آلة الفهم والإدراك من أنفسهم – وهي قلب الإنسان ولبه – أغطية حائلة دون فقهه، ونفوذ الأفهام إلى أعماق علمه، وفي آذانهم وقرا أي ثقلا أو صمما حائلا دون سماعه بقصد التدبر واستبانة الحق منه. ومعنى هذا الجعل ما مضت به سنة الله تعالى في طباع البشر من كون التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه يكون مانعا له باختباره من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق، فهو لا يستمع إلى متكلم ولا داع لأجل التمييز بين الحق والباطل، وإذا وصل إلى سمعه قول مخالف لما هو دين له أو عادة لا يتدبره ولا يراه جديرا بأن يكون موضوع المقابلة والتنظير مع ما عنده من عقيدة أو رأي أو عادة. وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية، بالحجب والموانع الحسية، فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم لأن سمعها وعدمه سواء. والأكنة جمع كنان كالأسنة جمع سنان، والوقر بالفتح الثقل في السمع والصمم بالكسر الحمل، يقال وقر سمعه يقر فهو موقور، إذا كان لا يسمع، وأوقر الدابة فهي موقرة.
{وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} يقول الله تعالى في هؤلاء الذين لا يسمعون ما يتلو عليهم الرسول سماع تدبر ولا يفقهون كنه ما يدعو إليه: وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك وحقية ما تدعو إليه لا يؤمنوا بها لأنهم لا يفقهونها ولا يدركون كنه المراد منها، لعدم التوجه أو لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ.
{حتى إذا جاءوك يجادلونك} أي حتى إذا صاروا إليك أيها الرسول مجادلين لك في دعوتك {يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين (25)} أي يقولون لإصرارهم على كفرهم وانتفاء فقههم: ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين من الأمم، أي قصصهم وخرافاتهم. يعني أنهم لا يعقلون مما في القرآن من أنباء الغيب في قصص الأمم مع رسلهم إلا أنها حكايات وخرافات تسطر وتكتب كغيرها، فلا علم فيها ولا فائدة منها، وربما جعلوا القرآن كله من هذا القبيل، قياسا لما لم يسمعوا على ما سمعوا، أو لغير القصص على القصص. وهكذا شأن من ينظر إلى الشيء نظرا سطحيا لا يستنبط منه علما ولا برهانا، ويسمع الكلام جرسا لفظيا لا يتدبره ولا يفقه أسراره، فمثل هذا وذاك كمثل الطفل الذي يشاهد ألعاب الصور المتحركة يديرها قوم لا يعرف لغتهم فكل حظه مما يري من المناظر ومن المكتوبات المفسرة لها لا يعدو التسلية. ولو عقل هؤلاء المقلدون الغافلون قصص القرآن وتدبروا معانيها لكان لهم منها آيات بينة على صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ونذر عظيمة مما فيها من بيان سنن الله تعالى في الأمم، وعاقبة أمرهم مع الرسل، وغير ذلك من الحكم والعبر.
وإن في أهل هذا العصر من لا يفكر في إتيان الأمي الناشئ بين الأميين بخلاصة أخبار أشهر الرسل مع أقوامهم لأنه يرى أو يسمع أن ما في القرآن من ذلك يشبه ما في غيره من كتب اليهود والنصارى وكتب التاريخ، ولا يرى في هذا ما يبعثه إلى البحث في الفرق بين ما في القرآن وما في غيره، وهو من وجوه أهمها في باب إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم كونه ظهر على لسان رجل أمي لم يقرأ ولم يطلع على شيء من كتب الدين ولا كتب التاريخ، وقد احتج بهذا على قومه فلم يستطع أحد ممن انتصبوا لعداوته أن يرفع في الإنكار عليه رأسا أو ينبس في الرد عليه بكلمة {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49].
فإذا كان في أهل هذا العصر من لا يفكر في هذه الآية البينة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي خاصة بقصص القرآن لما ذكرنا من السبب، ومن لا يفكر في إعجاز القرآن ببلاغته بعد أن عاش النبي ثلثي عمره قبله ولم يكن في كلامه ما هو معجز – فإن كفار قريش لم يكونوا يستطيعون إنكار كون محمد صلى الله عليه وسلم كان أميا مثلهم وأنه لم يكن يعرف شيئا من أخبار الرسل مع أقوامهم، ولا كان ممتازا بالبلاغة والفصاحة فيهم، ولكن كان بعضهم يجهل ما يعرفه أهل هذا العصر من كون تلك القصص كانت صحيحة لا من أساطير الأولين وأوضاعهم الخرافية التي لا يثبت لها أصل، ولأجل هذا سأل بعضهم اليهود عنها، كما كان بعضهم يجهل ما فيها من الآيات والعبر لعدم تدبرها. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: الأسطورة لغة الخرافات والترهات، وهي التي تجمع على أساطير، وقال الأخفش واحد الأساطير أسطورة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: ومن هؤلاء المشركين، قوم يحملهم بعضَ الأوقات، بعضُ الدواعي إلى الاستماع لما تقول، ولكنه استماع خال من قصد الحق واتباعه، ولهذا لا ينتفعون بذلك الاستماع، لعدم إرادتهم للخير {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي: أغطية وأغشية، لئلا يفقهوا كلام الله، فصان كلامه عن أمثال هؤلاء. {وَفِي آذَانِهِمْ} جعلنا {وَقْرًا} أي: صمما، فلا يستمعون ما ينفعهم. {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} وهذا غاية الظلم والعناد، أن الآيات البينات الدالة على الحق، لا ينقادون لها، ولا يصدقون بها، بل يجادلون بالباطل الحقَّ ليدحضوه. ولهذا قال: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي: مأخوذ من صحف الأولين المسطورة، التي ليست عن الله، ولا عن رسله. وهذا من كفرهم، وإلا فكيف يكون هذا الكتاب الحاوي لأنباء السابقين واللاحقين، والحقائق التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون، والحق، والقسط، والعدل التام من كل وجه، أساطيرَ الأولين؟.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق يصور حال فريق من المشركين؛ ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة.. يصور حالهم وهم يستمعون القرآن معطلي الإدراك، مطموسي الفطرة، معاندين مكابرين، يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على هذا النحو من الاستغلاق والعناد، ويدعون على هذا القرآن الكريم أنه أساطير الأولين؛ وينأون عن سماعه وينهون غيرهم عنه أيضا.. يصور حالهم هكذا في الدنيا في صفحة، وفي الصفحة الأخرى يرسم لهم مشهدا كئيبا مكروبا؛ وهم موقوفون على النار محبوسون عليها، وهي تواجههم بهول المصير الرعيب؛ وهم يتهافتون متخاذلين؛ ويتهاوون متحسرين؛ يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيكون لهم موقف غير ذلك الموقف، الذي انتهى بهم إلى هذا المصير. فيردون عن هذا التمني بالتصغير والتحقير:
(ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاؤوك يجادلونك، يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين. وهم ينهون عنه وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون. ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين! بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون).. إنهما صفحتان متقابلتان: صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض؛ وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة.. يرسمها السياق القرآني، ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي؛ ويخاطب بهما الفطر الجاسية؛ ويهز بها هذه الفطر هزا، لعل الركام الذي ران عليها يتساقط، ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح، ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان.
(ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)..
والأكنة: الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه؛ والوقر: الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع..
وهذه النماذج البشرية التي تستمع؛ ولكنها لا تفقه، كأن ليس لها قلوب تدرك؛ وكأن ليس لها آذان تسمع.. نماذج مكرورة في البشرية في كل جيل وفي كل قبيل، في كل زمان وفي كل مكان.. إنهم أناسي من بني آدم.. ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه. كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها. وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان!
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها. حتى إذا جاؤوك يجادلونك. يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين..
فأعينهم ترى كذلك. ولكن كأنها لا تبصر. أو كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم!
فما الذي أصاب القوم يا ترى؟ ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة. بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول؟ يقول الله -سبحانه -:
(وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا. وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)
وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه؛ وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له، مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان.
غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء.. إنه سبحانه يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)..
ويقول: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).. فشأن الله- سبحانه -أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى؛ وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها.. فأما هؤلاء فلم يتوجهوا إلى الهدى ليهديهم الله؛ ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم، فييسر الله لهم الاستجابة.. هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء؛ فجعل الله بينهم وبين الهدى حجابا؛ وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى.. وكل شيء إنما يكون بأمر الله. ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد، وأن يفلح من يتزكى. ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها.. والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم، وعلى قضائه فيهم، إنما يغالطون في هذه الإحالة. والله سبحانه يجبههم بالحق، وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها: (وقال الذين أشركوا: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دونه من شيء. كذلك فعل الذين من قبلهم. فهل على الرسل إلا البلاغ المبين؟ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).. فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم؛ وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم- بعد النذارة -بفعلهم..
والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر، والجبر والاختيار، وإرادة العبد وكسبه.. ليجعلوا منها مباحث لاهوتية، تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات، إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة؛ التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله؛ وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها، والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه؛ وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضا، فتكون.. وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله.. ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به.. وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء!
والمشركون كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان، في هذا القرآن، الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق؛ وهي وحدها كانت كفيلة- لو اتجهت إليها قلوبهم -أن توقع على أوتار هذه القلوب، وأن تهز فيها المدارك الغافية فتوقظها وتحييها، لتتلقى وتستجيب.. إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا؛ بل عطلوا فطرتهم وحوافزها؛ فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجابا؛ وصاروا حين يجيئون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيئون مفتوحي الأعين والآذان والقلوب؛ ليتدبروا ما يقوله لهم تدبر الباحث عن الحق؛ ولكن ليجادلوا ويتلمسوا أسباب الرد والتكذيب:
(حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين)..
والأساطير جمع أسطورة. وكانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالآلهة والأبطال في قصص الوثنيات. وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها.
وهم كانوا يعلمون جيدا أن هذا القرآن ليس بأساطير الأولين. ولكنهم إنما كانوا يجادلون؛ ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب؛ ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة.. وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصا عن الرسل وأقوامهم؛ وعن مصارع الغابرين من المكذبين. فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب، قالوا عن هذا القصص وعن القرآن كله: (إن هذا إلا أساطير الأولين)!
وإمعانا في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن، وتثبيت هذه الفرية.. فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين.. كان مالك بن النضر، وهو يحفظ أساطير فارسية عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس الأسطوريين، يجلس مجلسا قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن. فيقول للناس: إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين، فعندي أحسن منها! ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير، ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومن المشركين من يستمع إليك. وقد انتقل الكلام إلى أحوالِ خاصّة عقلائهم الذين يربؤون بأنفسهم عن أن يقابلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ما يقابله به سفهاؤهم من الإعراض التامّ، وقولِهم: {قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5]. ولكن هؤلاء العقلاء يتظاهرون بالحلم والأناة والإنصاف ويخيّلون للدهماء أنّهم قادرون على مجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام وإبطال حججه ثم ينهون الناس عن الإيمان. روى الواحدي عن ابن عبّاس أنّه سمّى من هؤلاء أبا سفيان بن حرب، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا جهل، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأمية وأبيّا ابني خلف، اجتمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن فلمّا سمعوه قالوا للنضر: ما يقول محمد فقال: والذي جعلها بيته (يعني الكعبة) ما أدري ما يقول إلاّ أنِّي أرى تحرّك شفتيه فما يقول إلاّ أساطير الأولين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية. يعني أنّه قال ذلك مكابرة منه للحقّ وحسداً للرسول عليه الصلاة والسلام. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى. وكان يحدّث قريشاً عن أقاصيص العجم، مثل قصة (رستم) و (إسفنديار) فيستملحون حديثه، وكان صاحب أسفار إلى بلاد الفرس، وكان النضر شديد البغضاء للرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دمه فقتل يوم فتح مكّة. وروي أنّ أبا سفيان قال لهم: إنِّي لأراه حقّاً. فقال له أبو جهل: كلاّ. فوصف الله حالهم بهذه الآية. وقد نفع الله أبا سفيان بن حرب بكلمته هذه، فأسلم هو دونهم ليلة فتح مكّة وثبتت له فضيلة الصحبة وصهر النبي صلى الله عليه وسلم ولزوجه هند بنت عتبة بن ربيعة.
و {الأكنّة} جمع كنان بكسر الكاف و (أفعلة) يتعيّن في (فِعال) المكسور الفاء إذا كان عينه ولامه مثلين. والكنان: الغطاء، لأنّه يكنّ الشيء، أي يستره. وهي هنا تخييل لأنّه شبَّهت قلوبهم في عدم خلوص الحقّ إليها بأشياء محجوبة عن شيء. وأثبتت لها الأكنّة تخييلاً، وليس في قلب أحدهم شيء يشبه الكنان.
وأسند جعل تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لأنّه خلقهم على هذه الخصلة الذميمة والتعقّل المنحرف، فهم لهم عقول وإدراك لأنّهم كسائر البشر، ولكن أهواءهم تخيّر لهم المنع من اتِّباع الحقّ، فلذلك كانوا مخاطبين بالإيمان مع أنّ الله يعلم أنّهم لا يؤمنون إذ كانوا على تلك الصفة، على أنّ خطاب التكليف عامّ لا تعيين فيه لأناس ولا استثناء فيه لأناس.
فالجعل بمعنى الخلق وليس للتحويل من حال إلى حال. وقد مات المسمّون كلّهم على الشرك عدا أبا سفيان فإنّه شهد حينئذٍ بأنّ ما سمعه حقّ، فدلّت شهادته على سلامة قلبه من الكنان.
والضمير المنصوب في {أن يفقهوه} عائد إلى القرآن المفهوم من قوله {يستمع إليك}. وحذف حرف الجرّ. والتقدير: من أن يفقهوه، ويتعلّق ب {أكنّة} لما فيه من معنى المنع، أي أكنّة تمنع من أن يفهموا القرآن.
والوَقر بفتح الواو الصمم الشديد وفعله كوعد ووجد يستعمل قاصراً، يقال: وقرت أذنه، ومتعدّياً يقال: وقر الله أذنه فوقرت. والوقر مصدر غير قياسي ل (وقرت) أذنه، لأنّ قياس مصدره تحريك القاف، وهو قياسي ل (وقر) المتعدّي، وهو مستعار لعدم فهم المسموعات. جعل عدم الفهم بمنزلة الصمم ولم يذكر للوقر متعلّق يدلّ على الممنوع بوقر آذانهم لظهور أنّه من أن يسمعوه، لأنّ الوقر مؤذن بذلك، ولأنّ المراد السمع المجازي وهو العلم بما تضمّنه المسموع.
وقوله: {على قلوبهم}، وقوله: {في آذانهم} يتعلّقان بِ {جعلنا}. وقدّم كلّ منهما على مفْعول {جعلنا} للتنبيه على تعلّقه به من أول الأمر.
فإن قلت: هل تكون هاته الآية حجّة للذين قالوا من علمائنا: إنّ إعجاز القرآن بالصَّرْفة، أي أعجز الله المشركين عن معارضته بأن صرفهم عن محاولة المعارضة لتقوم الحجّة عليهم، فتكون الصرفة من جملة الأكنّة التي جعل الله على قلوبهم.
قلت: لم يحتجّ بهذه الآية أصحاب تلك المقالة لأنّك قد علمت أنّ الأكنّة تخييل وأنّ الوقر استعارة وأنّ قول النضر (ما أدري ما أقول)، بُهتان ومكابرة، ولذلك قال الله تعالى: {وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها}.
وكلمة {كلّ} هنا مستعملة في الكثرة مجازاً لتعذّر الحقيقة سواء كان التعذّر عقلاً كما في هذه الآية، وقوله تعالى: {فلا تميلوا كلّ الميل} [النساء: 129]، وذلك أنّ الآيات تنحصر أفرادها لأنّها أفراد مقدّرة تظهر عند تكوينها إذ هي من جنس عامّ؛ أم كان التعذّر عادة...
... فيتعذّر أن يرى القوم كلّ أفراد ما يصحّ أن يكون آية، فلذلك كان المراد ب {كلّ} معنى الكثرة الكثيرة، كما تقدّم في قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية} في سورة [البقرة: 145].
و {حتى} حرف موضوع لإفادة الغاية، أي أنّ ما بعدها غاية لما قبلها. وأصل {حتى} أن يكون حرف جرّ مثل (إلى) فيقع بعده اسم مفرد مدلوله غاية لما قبل (حتّى). وقد يعدل عن ذلك ويقع بعد (حتّى) جملة فتكون (حتّى) ابتدائية، أي تؤذن بابتداء كلام مضمونه غاية لكلام قبل (حتى)...
... والأساطير جمع أسطورة بضم الهمزة وسكون السين وهي القصّة والخبر عن الماضين. والأظهر أنّ الأسطورة لفظ معرّب عن الرومية: أصله إسطوريَا بكسر الهمزة وهو القصّة. ويدلّ لذلك اختلاف العرب فيه، فقالوا: أسطورة وأسطيرة وأسطور وأسطير، كلّها بضم الهمزة وإسطارة وإسطار بكسر الهمزة. والاختلاف في حركات الكلمة الواحدة من جملة أمارات التعريب. ومن أقوالهم: « أعجميّ فالعب به ما شئْت». وأحسن الألفاظ لها أسطُورة لأنّها تصادف صيغة تفيد معنى المفعول، أي القصّة المسطورة. وتفيد الشهرة في مدلول مادّتها مثل الأعجوبة والأحدوثة والأكرومة... وكان العرب يطلقونه على ما يتسامر الناس به من القصص والأخبار على اختلاف أحوالها من صدق وكذب. وقد كانوا لا يميِّزون بين التواريخ والقصص والخرافات فجميع ذلك مرمي بالكذب والمبالغة. فقولهم: {إن هذا إلاّ أساطير الأولين}. يحتمل أنّهم أرادوا نسبة أخبار القرآن إلى الكذب على ما تعارفوه من اعتقادهم في الأساطير. ويشتمل أنّهم أرادوا أنّ القرآن لا يخرج عن كونه مجموع قصص وأساطير، يعنون أنّه لا يستحقّ أن يكون من عند الله لأنّهم لقصور أفهامهم أو لتجاهلهم يعرضون عن الاعتبار المقصود من تلك القصص ويأخذونها بمنزلة الخرافات التي يتسامر الناس بها لتقصير الوقت..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ). الكافر بالحق المعرض عن الأدلة يسبق كفره إيمانه فالكفر سابق على التثبت والاستدلال فهو متجه إلى الإنكار ابتداء ولذلك وصف الله تعالى الذين مردوا على الجحود والإنكار وقال فيهم: (وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْبها) والآية الدليل المعجز على رسالة الرسول فالآية كما يقول العلماء لعموم النفي، أي أنهم لا يؤمنون بأي رسالة يرونها مهما تكن قوتها ظاهرة، ومهما تكن دلالتها قاهرة، لأن العناد والجحود يقهر كل حجة ويمنع سلطانها على القلب، إذا ختم عليه، حتى لا ينفذ النور إليه، فإذا كفروا بالقرآن فذلك شان الذين طبع الله على قلوبهم، وجعل في آذانهم وقرا، وعلى قلوبهم أكنة، وعلى إبصارهم غشاوة، ولذلك قالوا في معجزة النبي صلى الله عليه وسلم إذا جادلوا كما حكى الله تعالى عنهم: (حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) ويلاحظ هنا أن الله تعالى يقول: (إذا جاءوك يجادلونك) فيه إشارة إلى أنهم كانوا بعداء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ثم جاءوك، ولم يكن مجيئهم إذعانا لحق، ولا طلبا لحقيقة ولكن كان تحديا للرسول ومبالغة في الإنكار، واستهانة بالقرآن الحكيم وهو الآية الكبرى ولذا قال الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير؛ والمعنى ما هذا إلا أخبار الأقدمين. وهنا إشارتان: أولاهما، أنهم ما جاءوا يطلبون الحق، ولكن جاءوا يجادلون تقال للتسلية ومنها ما يكون غير صادق والجدل في أكثر أحواله تمويه وليس طلب حق. والثانية: أن الذين كفروا يقولون ما هي إلا أساطير الأولين بسبب كفرهم فكفرهم سابق لرفضهم المعجزة.
إن من هؤلاء من يستمع إلى القرآن لا بهدف التفهم والهداية، ولكن بهدف تلمس أي سبيل للطعن في القرآن، فكأن قلوبهم مغلقة عن القدرة على الفهم وحسن الاستنباط وصولا إلى الهداية، وهم يجادلون بهدف تأكيد كفرهم لا بنية صافية لاستبانة آفاق آيات الحق والوصول إلى الطريق القويم. ونعلم أن السورة كلها جاءت لتواجه قضية الأصنام والوثنية والشرك بالله، ونعلم أن المعجزة التي جاءت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي القرآن، وهو معجزة كلامية، تختلف عن المعجزات المرئية التي شاهدها المعاصرون لموسى عليه السلام: كشق البحر بالعصا أو رؤية العصا وهي تصير حية تلقف كل ما ألقاه السحرة، أو معجزة عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص، فهذه كلها معجزات مرئية ومحددة بوقت، أما المعجزة رسول الله فهي معجزة مسموعة ودائمة. إن السمع هو أول أدوات الإدراك للنفس البشرية، إنه أول آلة إدراك تنبه الإنسان، إنه آلة الإدراك الوحيدة التي تستصحب وقت النوم وتؤدى مهمتها؛ لن تصميمها يضم إمكانات مواصلة مهمتها وقت النوم. ونعلم أن الحق حينما أراد أن يقيم أهل الكهف مدة ثلاثمائة وتسع سنين ضرب على آذانهم حتى يكون نومهم سباتا عميقا، فهم في كهف في جبل، والجبل في الصحارى تهب عليها الرياح والزوابع والأعاصير، فلو أن آذانهم على طبيعتها لما استراحوا في النوم الذي أراده الله لهم، ولذلك ضرب الله على آذانهم وقال سبحانه: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11)} (سورة الكهف). ومعجزة رسول الله – إذن – جاءت سمعية وأيضا يمكن قراءتها. وحين يتلقى الإنسان بلاغا فهو يتلقاه بسمعه، ويستطيع من بعد ذلك أن يقرأ هذا البلاغ ويتفقه فيه، ولا أحد يعرف القراءة إلا إذا سمع أصوات الحروف أولا ثم رآها من بعد ذلك، لقد تميزت معجزته صلى الله عليه وآله وسلم بسيد الأدلة في وسائل الإدراك الإنساني، وهو السمع، والحق يقول: {ومنهم من يستمع إليك}. إن هناك فارقا بين (يسمع) و (يستمع)، فالذي يسمع هو الذي يسمع عرضا، أما الذي (يستمع) فهو الذي يسمع عمدا. والسامع دون عمد ليس له خيارا ألا يسمع، إلا إذا سد أذنيه. أم الذي يستمع فهو الذي يقصد السمع. وهم كانوا يستمعون للقرآن لا بغرض اكتشاف آفاق الهداية ولكن بغرض الإصرار على الكفر وذلك بقصد تصيد المطاعن على القرآن...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} لأنهم لا يعيشون مسؤولية الإيمان، ولهذا فهم لا يلتفتون إلى ما في هذه الآية أو تلك من العناصر التي تثبت حقيقة المضمون الإيماني من ناحيةٍ فكرية وروحيّة، {حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} فهم لا يدخلون جوّ الجدال بروحية من يريد أن يناقش الفكرة، في إطارٍ من التفكير المسؤول والحوار الهادف، بل يدخلونه ليؤكدوا صدور الدعوة عن أسباب تبخس من قيمتها لا ليناقشوا أمرها.. فهم يقولون عن كل هذا الحق الذي يدعو إليه الإسلام، إنه من أكاذيب الأولين وأساطيرهم، ولكن كيف اكتشفوا ذلك؟ وما هي الحجة على هذه الدعوى؟ ليس في ذلك أيّة مشكلة لديهم، لأنّ كل هدفهم هو إثارة الضباب وتشويه صورة الدعوة من خلال شعارات تتفاعل في نفوس البسطاء من الناس، فينفصلون عن خط الدعوة، ويبتعدون عن رسول الله (ص)...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية إِشارة إِلى الوضع النفسي لبعض المشركين، فهم لا يبدون أية مرونة تجاه سماع الحقائق، بل أكثر من ذلك يناصبونها العداء، ويقذفونها بالتهم، فيبعدون أنفسهم وغيرهم عنها، عن هؤلاء تقول الآية: (ومنهم من يستمع إِليك وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً). في الواقع كانت عقولهم وأفكارهم منغمسة في التعصب الجاهلي الأعمى، وفي المصالح المادية والأهواء، بحيث أصبحت وكأنّها واقعة تحت الأستار والحواجز، فلا هم يسمعون حقيقة من الحقائق، ولا هم يدركون الأُمور إِدراكاً صحيحاً. سبق أن قلنا مراراً أنّ نسبة هذه الأُمور إِلى الله، إِنّما هو إِشارة إِلى قانون «العلة والمعلول» وخاصية «العمل»، أي أنّ أثر الاستمرار في الانحراف والإِصرار على المعاندة والتشاؤم يظهر في اتصاف نفس الإِنسان بهذه المؤثرات، وفي تحولها إِلى مثل المرآة المعوجة التي تعكس صور الأشياء معوجة منحرفة، لقد أثبتت التجربة أنّ المنحرفين والمذنبين يحسون أوّل الأمر بعدم الرضا عن حالهم، ولكنّهم يعتادون ذلك بالتدريج، وقد يصل بهم الأمر إِلى اعتبار أعمالهم القبيحة لازمة وضرورية، وبتعبير آخر: هذا واحد من أنواع العقاب الذي يناله المصّرون على العصيان ومعاداة الحقّ. وهؤلاء وصلوا حدّاً تصفه الآية فتقول: (وإِن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)، بل الأكثر من ذلك أنّهم عندما يأتون إِليك، لا يفتحون نوافذ قلوبهم أمام ما تقول، ولا يأتون على الأقل بهيئة الباحث عن الحقّ الذي يسعى للعثور على الحقيقة والتفكير فيها، بل يأتون بروح وفكر سلبيين، ولا هدف لهم سوى الجدل والاعتراض: (حتى إِذا جاؤوك يجادلونك) أنّهم عند سماعهم كلامك الذي يستقى من ينابيع الوحي ويجري على لسانك الناطق بالحقّ، يبادرون إِلى اتهامك بأنّ ما تقوله إِنّما هو خرافات اصطنعها أُناس غابرون: (يقول الذين كفروا إِن هذا إلا أساطير الأولين)...