قوله تعالى { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين }
اعلم أنه تعالى لما بين أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس عن إيمان بعضهم فقال { ومنهم من يستمع إليك } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عامر وأبو جهل واستمعوا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال : لا أدري ما يقول لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بعض ما يقول حقا فقال أبو جهل كلا فأنزل الله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } والأكنة جمع كنان وهو ما وقى شيئا وستره ، مثل عنان وأعنة ، والفعل منه كننت وأكننت . وأما قوله { أن يفقهوه } فقال الزجاج : موضع { أن } نصب على أنه مفعول له والمعنى وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت ( اللام ) نصبت الكراهة ، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى ( أن ) وقوله { وفي آذانهم وقرا } قال ابن السكيت : الوقر الثقل في الأذن .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصرف عن الإيمان ، ويمنع منه ويحول بين الرجل وبينه ، وذلك لأن هذه الآية تدل على أنه جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان ، وذلك هو المطلوب . قالت المعتزلة : لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول ، ولو كان المراد من هذه الآية أنه تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم الله تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان ، ولم يدعونا إلى فعل الإيمان ؟ الثاني : أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفا للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } الثالث : أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفى ءاذاننا وقر } وقال في آية أخرى { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم } وإذا كان قد حكى الله تعالى هذا المذهب عنهم في معرض الذم لهم امتنع أن يذكره هاهنا في معرض التقريع والتوبيخ ، وإلا لزم التناقض . والرابع : أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون . والخامس أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل الله تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين . والسادس : أن قوله { حتى إذا جاءوك يجادلونك } يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل ، وعند هذا قالوا لابد من التأويل وهو من وجوه : الأول : قال الجبائي أن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فعند ذلك كان الله سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم ، وهو المراد من الأكنة ، ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم ، وهو المراد من قوله { وفي آذانهم وقرا } والثاني : أن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن ، فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون .
وإذا ثبت هذا فنقول : لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع ، مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان .
والتأويل الثالث : أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه ، فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان ، فذكر الله تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى .
والتأويل الرابع : أنه تعالى لما منعهم الالطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها ، وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول { وجعلنا على قلوبهم أكنة } .
والتأويل الخامس : أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفى ءاذاننا وقر } .
والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أنه لا يمكن حمل الكنان والوقر على أن الله تعالى منعهم عن الإيمان ، وهو أن نقول : بل البرهان العقلي الساطع قائم على صحة هذا المعنى ، وذلك لأن العبد الذي أتى بالكفر إن لم يقدر على الإتيان بالإيمان ، فقد صح قولنا إنه تعالى هو الذي حمله على الكفر وصده عن الإيمان . وأما إن قلنا : إن القادر على الكفر كان قادرا على الإيمان فنقول : يمتنع صيرورة تلك القدرة مصدرا للكفر دون الإيمان ، إلا عند انضمام تلك الداعية ، وقد عرفت في هذا الكتاب أن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، فيكون الكفر على هذا التقدير من الله تعالى ، وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كنانا للقلب عن الإيمان ، ووقرا للسمع عن استماع دلائل الإيمان ، فثبت بما ذكرنا أن البرهان العقلي مطابق لما دل عليه ظاهر هذه الآية .
وإذا ثبت بالدليل العقلي صحة ما دل عليه ظاهر هذه الآية ، وجب حمل هذه الآية عليه عملا بالبرهان وبظاهر القرآن ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : أنه تعالى قال : { ومنهم من يستمع إليك } فذكره بصيغة الإفراد ثم قال : { على قلوبهم } فذكره بصيغة الجمع . وإنما حسن ذلك لأن صيغة ( من ) واحد في اللفظ جمع في المعنى .
وأما قوله تعالى : { وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها } قال ابن عباس : وإن يروا كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة ، وهذه الآية تدل على فساد التأويل الأول الذي نقلناه عن الجبائي ، ولأنه لو كان المراد من قوله تعالى : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } إلقاء النوم على قلوب الكفار لئلا يمكنهم التوسل بسماع صوته على وجدان مكانه لما كان قوله { وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها } لائقا بهذا الكلام ، وأيضا لو كان المراد ما ذكره الجبائي لكان يجب أن يقال : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يسمعوه ، لأن المقصود الذي ذكره الجبائي إنما يحصل بالمنع من سماع صوت الرسول عليه السلام ، أما المنع من نفس كلامه ومن فهم مقصوده ، فلا تعلق له بما ذكره الجبائي فظهر سقوط قوله . والله أعلم .
أما قوله تعالى : { حتى إذا جاءوك يجادلونك } فاعلم أن هذا الكلام جملة أخرى مرتبة على ما قبلها و{ حتى } في هذا الموضع هي التي يقع بعدها الجمل ، والجملة هي قوله { إذا جاءوك يجادلونك } يقول الذين كفروا ، ويجادلونك في موضع الحال وقوله { يقول الذين كفروا } تفسير لقوله { يجادلونك } والمعنى أنه بلغ بتكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون { إن هذا إلا أساطير الأولين } قال الواحدي : وأصل الأساطير من السطر ، وهو أن يجعل شيئا ممتدا مؤلفا ومنه سطر الكتاب وسطر من شجر مغروس . قال ابن السكيت : يقال سطر وسطر ، فمن قال سطر فجمعه في القليل أسطر والكثير سطور ، ومن قال سطر فجمعه أسطار ، والأساطير جمع الجمع ، وقال الجبائي : واحد الأساطير أسطور وأسطورة وأسطير وأسطيرة ، وقال الزجاج : واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة . وقال أبو زيد : الأساطير من الجمع الذي لا واحد له مثل عباديد ثم قال الجمهور : أساطير الأولين ما سطره الأولون . قال ابن عباس : معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها . فأما قول من فسر الأساطير بالترهات ، فهو معنى وليس مفسرا . ولما كانت أساطير الأولين مثل حديث رستم واسفنديار كلاما لا فائدة فيه لا جرم فسرت أساطير الأولين بالترهات .
المسألة الرابعة : اعلم أنه كان مقصود القوم من ذكر قولهم { إن هذا إلا أساطير الأولين } القدح في كون القرآن معجزا فكأنهم قالوا : إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة ، والقصص المذكورة للأولين ، وإذا كان هذا من جنس تلك الكتب المشتملة على حكايات الأولين وأقاصيص الأقدمين لم يكن معجزا خارقا للعادة . وأجاب القاضي عنه بأن قال : هذا السؤال مدفوع لأنه يلزم أن يقال لو كان في مقدوركم معارضته لوجب أن تأتوا بتلك المعارضة ، وحيث لم يقدروا عليها ظهر أنها معجزة . ولقائل أن يقول : كان للقوم أن يقولوا نحن وإن كنا أرباب هذا اللسان العربي إلا أنا لا نعرف كيفية تصنيف الكتب وتأليفها ولسنا أهلا لذلك . ولا يلزم من عجزنا عن التصنيف كون القرآن معجزا لأنا بينا أنه من جنس سائر الكتب المشتملة على أخبار الأولين وأقاصيص الأقدمين .
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال سيأتي في الآية المذكورة بعد ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.