قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْك } .
راعى لفظ " مَنْ " فأفرد ، ولو رَاعَى المعنى لجمع ، كقوله في موضع آخر : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } [ يونس :42 ] .
وقوله : { عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } إلى آخره ، حمل على معناها قوله : " وَجَعلْنَا " " جعل " هنا يحتمل أن يكون للتَّصْييرِ ، فيتعدّى لاثنين ، أوَّلُهُمَا : " أكنَّة " والثاني : الجار قبله ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : صيَّرنا الأكِنَّة مستقرّة على قلوبهم ، ويحتمل أن يكون بمعنى " خلق " ، فيتعدى لواحد ، ويكون الجار قبله حالاً فيتعلق بمحذوف ؛ لأنه لو تأخر لوقع صفة ل " أكِنَّة " .
ويحتمل أن يكون بمعنى " ألقى " فتتعلّق " على " بها ، كقولك : " ألقيتُ على زيد كذا " ، { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه :39 ] .
أظهرهما : أنها مُسْتأنَفَةٌ سيقت للإخبار بما تضمّنَتْهُ من الخَتْمِ على قلوبهم وسمعهم .
ويُحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال ، والتقدير : ومنهم من يستمع في حال كونه مَجْعُولاً على قلبه كنانٌ ، وفي أذنه وقرٌ ، فعلى الأول يكون قد عطف جملة فعلية{[13501]} على اسمية{[13502]} ، وعلى الثاني : تكون الواو للحال ، و " قد " مضمرة بعدها عند مَنْ يُقَدِّرَها قبل الماضي الواقع حالاً .
والأكِنَّةُ : جمع " كِنَان " ، وهو الوعَاءُ الجامع .
إذَا ما انْتَضَوْهَا فِي الوَغَى مِن أكِنَّةٍ *** حَسِبْتَ بُرُوقَ الغَيْثِ تَأتِي غُيُومُهَا{[13503]}
وقال بعضهم : " الكِنُّ " - بالكَسْرِ - ما يُحْفَظُ فيه الشَّيء ، وبالفتح المصدر . يقال : كَننْتهُ كِنّاً ، أي : جعلته في كِنٍّ ، وجُمِعَ على " أكنان " قال تبارك وتعالى : { مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً } [ النحل :81 ] .
والكِنَانُ : الغِطَاءُ السَّاتِرُ ، والفعل من هذه المادة يُسْتعمل ثلاثياً ورُبَاعيّاً ، يقال : كَنَنْتُ الشَّيء ، وأكنَنْتُه كنَّا وإكناناً ، إلاَّ أن الراغب فَرَّق بين " فَعَلَ " و " أفْعل " ، فقال : " وخُصَّ كننت بما يستُر من بيت ، أو ثوب ، أو غير ذلك من الأجسام " ، قال تعالى :
{ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُون } [ الصافات :49 ] وأكننت بما يستر في النفس ، قال تعالى : { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة :235 ] .
ويشهد لما قال قوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [ الواقعة :77-78 ] وقوله تعالى : { مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } [ القصص :69 ] . و " كِنَان " يُجمع على " أكِنَّة " في القِلّةِ والكَثْرَةِ لتضعيفه ، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمَعُ في القِلَّةِ على " أفْعِلة " ك " أحمرة " و " أقْذِلَة " ، وفي الكَثْرَةِ على فُعُل ك " حُمُر " ، و " قُذُل " ، إلاَّ أن يكون مُضاعفاً ك " بَتَات " {[13504]} و " كِنَان " ، أو معتل اللام ك " خباء " و " قباء " ، فيلتزم جمعه على " أفْعِلَة " ، ولا يجوز على " فُعل " إلاَّ في قليلٍ من الكلام كقولهم : " عُنُن " ، و " حُجُج " في جمع " عِنان " و " حجاج " .
قال القرطبي{[13505]} : والأكِنَّةُ : الأغْطِية مثل : الأسنَّة والسِّنَان ، والأعنَّة والعِنَان ، كَنَنْتُ الشيء في كِنَّةٍ إذا صُنْتهُ فيه ، وأكْنَنْت الشَّيء أخْفَيْتُهُ ، والكِنَانَةُ معروفة ، والكَنَّة - بفتح الكاف والنون - امرأة أبيك ، ويقال : امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنة .
قوله : " أنْ يَفْقَهُوهُ " في مَحَلِّ نَصْبٍ على المفعول من أجْلِهِ ، وفيه تأويلان سَبَقَا .
أحدهما : كَرَاهَةَ أن يفقهوه ، وهو رأيُ البصريين .
والثاني : حَذْفُ " لا " ، أي : أن لا يَفْقَهُوهُ ، وهو رأيُ الكوفيين .
قوله : " وَقْراً " عطفٌ على " أكِنَّة " فَيَنْتَصِبُ انْتِصَابَهُ ، أي : وجعلنا في آذانهم وقراً و " في آذانهم " كقوله : " عَلَى قُلُوبِهِمْ " .
وقد تقدَّمَ أنَّ " جَعَل " يحتمل معاني ثلاثة ، فيكون هذا الجار مبنيَّاً عليها من كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ ، أو متعلّقاً بها نفسها أو حالاً .
والجمهور على فتح{[13506]} الواو من " وَقراً " .
وقرأ طَلحةُ{[13507]} بن مُصَرّفٍ بكسرها ، والفرق بين " الوَقْر " و " الوِقْر " أنَّ المفتوح هو الثِّقَلُ في الأذُنِ ، يُقال منه : وَقَرتْ أذنه يفتح القاف وكسرها ، والمُضارع تَقِرُ وتَوْقَر ، بحسب الفعلين ك " تعد " و " تَوْجَل " .
وحكى أبو زيد : أذُنٌ مَوْقُورة ، وهو جَارٍ على القياس ، ويكون فيه دليلٌ على أنَّ " وَقَرَ " الثلاثي يكون متعدِّياً ، وسُمِع " أذنٌ مَوْقُورةٌ " والفعل على هذا " أوْقَرْتُ " رباعياً ك " أكرم " .
و " الوِقْر " - بالكسر - الحِمْلُ للحمار والبَغْلِ ونحوهما ، كالوَسْق للبعير .
قال تعالى : { فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً } [ الذاريات :2 ] فعلى هذا قراءة الجمهور واضحةٌ ، أي : وجعلنا في آذانهم ، ثِقَلاً ، أي : صَمَماً{[13508]} .
وأمَّا قراءة طَلْحَةَ ، فكأنه جعل آذانهم وقَرَتْ من الصمم كما تُوقَرُ الدَّابَّةُ بالحِمْلِ ، والحاصلُ أنَّ المادة تَدُلُّ على الثَّقَلِ والرَّزانة{[13509]} ، ومنه الوَقَارُ للتُّؤدَةِ ، والسَّكينة ، وقوله تعالى : { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } فيه الفَصْلُ بين حَرْفِ العَطْفِ وما عطفه بالجار مع كون العاطف [ على حرف واحد ]{[13510]} وهي مسألة خلاف تقدَّم تَحْقِيقُهَا في قوله : { أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء :58 ] .
والظاهِرُ : أن هذه الآية ونظائرها مثل قوله تعالى : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً } [ البقرة :201 ] ليس مما فُصِلَ فيه بين العاطف ومعطوفه كما تقدَّم .
قال الكَلْبِيُّ عن ابن عبَّاس{[13511]} - رضي الله عنهما - : اجتمع أبو سفيان بن حَرْبٍ ، وأبو جهل بن هِشَامٍ ، والوليدُ بن المُغيرَةِ ، والنضر بن الحارث ، وعُتْبَةُ وشَيْبةَ ابنا رَبِيعة ، وأميَّة وأبَيُّ ابنا خلف والحرث بن عامرٍ يستمعون القرآن العظيم ، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة : ما يقول محمد ؟ قال ما أدري ما يقول إلاَّ أنه يُحَرِّكُ لِسَانُه وشَفَتَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بأسَاطِير الأوَّلين مثل ما كنت أحَدِّثَكُم عن القرون الماضية ، وكان النَّضر كَثِيرَ الحديث عن القُرونِ وأخبارها ، فقال أبو سفيان : أني لأرى بَعْضَ ما يقول حقاً .
فقال أبو جَهْلِ : كَلاّ ، لا تقرّ بشيء من هذا ، وفي رواية : للموتُ أهونُ{[13512]} علينا من هذا ، فأنزل الله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } أي : إلى كلامك ، { وجَعَلْنَا علَى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً }{[13513]} أغْطِيَةً جمع " كِنَان " ، كالأعِنَّة جمع " عِنَان " { أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانْهِمْ وَقْراً } أي : صَمَماً وثقلاً .
احتج أهْلُ السُّنةِ بهذه الآية الكريمة على أنه -تعالى- يَصْرِفُ عن الإيمان ، ويَمْنَعُ منه ؛ لأنه -تعالى- جعل القَلْبَ في الكِنَانِ الذي يمنعه عن الإيمان .
قالت المعتزلة{[13514]} : لا يمكن إجْراءُ هذه الآية على ظَاهرِهَا لوجوهٍ :
أحدها : أنه -تبارك وتعالى- إنَّما أنزل القرآن العظيم حُجَّةً للرُّسُلِ على الكُفَّارِ ، لا ليكون حُجَّةً للكُفِّارِ على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو كان المرادُ من هذه الآية الكريمة أنه -تعالى- منع الكُفَّارَ عن الإيمان ، لكان لهم أن يقولوا للرسول عليه الصَّلاة والسَّلامُ لما حكم بأنه منعنا من الإيمان فلم يَذِمَّنَا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان .
وثانيها : أنه تبارك وتعالى لو مَنَعَهُمْ من الإيمان ، ثم دَعَاهُمْ إليه لكان ذلك تكليفاً لِلْعَاجِزِ ، وهو مَنْفِيٌّ بصريح العَقْلِ ، وبقوله تبارك وتعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة :286 ] .
وثالثها : أنه -تعالى- حكى ذلك الكلام عن الكُفَّارِ في معرض الذَّمِّ ، فقال تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [ فصلت :5 ] وقال في آية أخرى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة :88 ] .
وإذا كان قد حَكَى عنهم هذا المَذهَبَ في معرض الذَّم لهم امتنع أن يكون ذكره هنا في معرض التقريع والتوبيخ ، وإلاَّ لَزِمَ التَّنَاقُضُ .
ورابعها : أنه لا نِزَاعَ في أنَّ القَوْمَ كانوا يَفْقَهُوَن ، ويَسْمَعُونَ ، ويعقلون .
وخامسها : أنَّ هذه الآية وَرَدَتْ في معرض الذَّمِّ على ترك الإيمان ، وإذا كان هذا الصَّدُّ ، والمَنْعُ من قِبَلِ الله -تعالى- لما كانوا مَذْمُومِينَ ، بل كانوا معْذُورينَ .
وسادسها : أن قوله : { حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } يَدُلُّ على أنهم كانوا يفقهون ، ويُمَيِّزُونَ الحَقَّ من الباطل ، وعند هذا فلا بُدَّ من التأويل وهو من وُجُوه :
الأول : قال الجُبَّائِيُّ{[13515]} : إنَّ القوْمَ كانوا يَسْتَمِعُونَ قِراءةَ الرسول عليه الصلاة والسلام ، لِيَتَوَصَّلُوا بسماع قراءته إلى مَعْرِفةِ مكانه بالليل ، فيقصدوا قَتْلَهُ وإيذَاءهُ ، فكان اللَّهُ -تبارك وتعالى- يلقي في قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنَّةِ ويثقل أسْماعَهُمْ عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النَّوْمِ ، وهو المراد من قوله : { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } .
الثاني : أن الإنسان الذي عَلِمَ الله -تعالى- منه أنه لا يؤمن ، وأنه يموت على الكُفْرِ ، فإنه -تبارك وتعالى- يَسِمُ قَلبهُ بعلامة مَخْصُوصَةٍ يستدلُ الملائكة برؤيتها على أنهم لا يُؤمِنُونَ ، فلا يَبْعُدُ تسمية تلك العلامةِ بالكِنَانِ والغِطَاءِ المانع ، وتلك العلامَةُ في نفسها ليست مَانِعَةً عن الإيمان{[13516]} .
الثالث : أنَّهم لمَّا أصَرُّوا على الكُفْرِ ، وصَمَّمُوا عليه صار عدولهم عن الإيمان ، والحالة هذه كالكِنَانِ المانِعِ عن الإيمان ، فذكر الله تبارك وتعالى الكِنانَ كِنايَةً عن هذا المعنى .
الرابع : إنه تعالى لما منعهم الألطاف التي يفعل بمَنْ اهتدى ، فأخْلاهُمْ منها ، وفوَّضَ أمورهم إلى أنفسهم لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ ، لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } .
الخامس : أن يكون هذا الكلامُ وَرَدَ حِكَاية لما كانوا يذكرونه من قولهم : " قلوبنا غُلْفٌ " ، وقالوا : { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [ فصلت :5 ] .
فالجواب : أن العَبْدَ الذي أتى بالكُفْرِ إن لم يقدِرْ على الإتيان بالإيمان فقد صَحَّ قولنا : بأنه -تبارك وتعالى- هو الذي حمله على الكُفْرِ [ وصَدَّهُ عن الإيمان ، وإن كان القادر على الكُفْر قَادراً على الإيمان فيمتنع صيرورة تلك القدرة مَصْدراً للكُفْرِ ]{[13517]} دون الإيمان إلاَّ عند انْضمَام تلك الدَّاعية ، وقد تقدَّم أنَّ مجموع القُدْرَةِ مع الدَّاعي يوجب الفِعْل ، فيكون الكُفْرُ علَى هذا التقدير من اللَّهِ تعالى ، وتكون الدَّاعية الجارة إلى الكُفر كِنَاناً للقلب عن الإيمان ، ووقراً للسَّمْعِ عن اسْتِمَاع دَلائِلَ الإيمان ، فإذا ثبت في الدَّليلِ العَقْليِّ صِحَّةُ ما دَلَّ عليه ظَاهِرُ الآية الكريمة وجب حَمْلُهَا عليه عَمَلاً بالبرهان ، وظاهر القرآن{[13518]} .
قوله : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة } أي من المُعْجِزَاتِ والدَّلالاتِ { لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ تأويل الجُبَّائي ؛ لأنه لو كان المراد بالأكِنَّةِ إلْقاء النوم على قلوب الكُفَّار لئلا يمكنهم التَّوصُّل بسماع صوْتِهِ إلى وجدان مكانه ، لما كان قوله : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } لائقاً بذلك الكلام ، ولوجب أن يُقالَ : وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً أنْ يسمعوه ؛ لأن المقصود الذي ذكره الجُبَّائي إنما يَحْصُلُ بالمَنْعِ من سماع الصَّوتِ ، أمَّا المَنْعُ من الفِقْهِ لكلامه فلا تعلُقَ له بما ذكره الجبائي{[13519]} .
قوله : { حَتَّى إذَا جَاءُوكَ } قد تقدَّم الكلامُ في " حتَّى " الداخلة على " إذا " في أول " النساء " .
وقال : أبو البقاء{[13520]} - رحمه الله تعالى - : هنا " إذا " في موضع نَصْبٍ بجوابها ، وهو " يقول " وليس ل " حتَّى " هنا عَمَلٌ وإنَّما أفادت معنى الغايةِ ، كما لا تعمل في الجُمَلِ .
وقال الحوفي : " حَتَّى " غايةٌ و " يجادلونك " حال ، " ويقول " جواب " إذا " ، وهو العامل في " إذا " .
وقال الزمخشري{[13521]} : [ هي ]{[13522]} " حتى " التي تقع بعدها الجُمَلُ ، والجملة قوله : { إذا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ } ، و " يُجَادِلُونَكَ " في موضع الحَالِ ، ويجوزُ أن تكون الجارةَ ، فيكون " إذا جاءوك " في مَحَلِّ الجر ، بمعنى " حتَّى " وقت مجيئهم ، و " يجادلونك " حالٌ ، .
وقوله : { يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا } تفسيرٌ له ، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويُنَاكِرُونَكَ .
وفسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بأنهم يقولون : { إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين } قال أبو حيَّان{[13523]} : " وقد وُفَّقَ الحوفي ، وأبو البقاء ، وغيرهما للصواب في ذلك " ثمَّ ذكر عِبَارَةَ أبي البقاء والحوفي ، وقال أيضاً : و " حتى " إذا وقع بعدهما " إذا " ، يُحْتمل أن تكون بمعنى " الفاء " ، ويحتمل أن تكون بمعنى " إلى أن " ، فيكون التقديرُ : فإذا جَاءُوك يُجَادِلُونَكَ يقول ، أو يكون التقدير : وجعلنا على قلوبهم أكنَّة ، وكذا إلى أن قالوا : إن هذا إلاَّ أساطير الأوَّلين ، وقد تقدَّم أن " يُجَادِلُونك " حالٌ من فاعل " جَاءُوكَ " ، و " يقول " : إمَّا جواب : " إذا " وإمَّا مفسِّرةٌ للمجيء ، كما تقدَّم تقريره .
أحدها : أنه جمع لواحد مُقَدَّرٍ ، واخْتُلِفَ في ذلك المُقَدَّرٍ ، فقيل : أسْطُورة ، وقيل : أسْطَارة ، وقيل أسْطُور ، وقيل : أسْطَار ، وقيل إسْطِيرة وقال بعضهم : بل لُفِظَ بهذه المفردات .
والثاني : أنه جَمْعُ جَمْعٍ ف " أساطير " جمع " أسْطار " ، و " أسطار " جمع " سَطَر " بفتح الطاء ، وأمَّا " سَطْر " بسكونها فَجَمْعُهُ في القِلَّةِ على " أسْطُر " ، وفي الكثرة على " سطور " ك " فَلْس " و " أفْلُس " و " فُلُوس " .
والثالث : أنه جَمْعُ جَمْع الجَمْعِ ف " أساطير " جمع " أسْطَار " ، و " أسطار " جمع " أسْطُر " ، و " أسْطُر " جمع " سَطْر " وهذا مرويُّ عن الزَّجَّاج ، وليس بشيء فإنَّ " أسْطَار " ليس جمع " أسْطُر " ، بل هما مِثَالاً جَمْع قلَّة .
قال : ابن عطية{[13524]} : " هو اسمُ جمع لا واحد له من لفظه " وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنه كان على صيغةٍ تَخُصُّ الجُمُوع لم يُسمُّوه اسم جمع ، بل يقولون : هو جمع ك " عَبَاديد " و " شَمَاطِيط " ، فظاهر كلام الرَّاغب{[13525]} - رحمه الله تعالى - : أن " أساطير " جمع " سَطَر " بفتح الطاء ، فإنه قال : وجمع " سَطَر " - يعني بالفتح - " أسطار " و " أساطير " .
وقال المُبَرِّد - رحمه الله تعالى - : هي جمع " أسْطُورة " نحو : " أرْجُوحَة " و " أراجيح " و " أحْدُوثَة " و " أحاديث " .
ومعنى " الأساطير " : الأحاديث الباطلة والتُّرَّهَات ممَّا لا حَقيقَةَ له .
وقال الواحدي{[13526]} - رحمه الله تعالى - : أصلُ " الأسَاطير " من " السَّطْر " وهو أن يجعل شيئاً ممتداً مُؤلَّفاً ، ومنه سَطْرُ الكتاب ، وسطر من شجر مفروش .
قال ابن السكيت{[13527]} : يقال سَطْرٌ وسِطْرٌ ، فمن قال : " سَطْر " فجمعه في القليل " أسْطُر " ، والتكثير " سُطُور " ، ومن قال : " سِطْر " فجمعه " أسْطَار " ، و " الأساطير " جمع الجمع .
وقال الجبائي{[13528]} - رحمه الله تعالى - : واحدُ الأساطير " أسْطُور " و " أسطورة " و " إسطيرة " .
قال جمهور المفسرين : أساطير الأولين ما سَطَّرَهُ الأوَّلون .
وقال ابن عباس{[13529]} : معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها ، أي : يَكْتُبُونَهَا .