قوله تعالى : { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } ، قيل : هذا عند السد ، يقول : تركنا يأجوج ومأجوج ، أي : يدخل ، بعضهم في بعض ، كموج الماء ، ويختلط بعضهم ببعض لكثرتهم . وقيل : هذا عند قيام الساعة ، يدخل الخلق بعضهم في بعض ، ويختلط إنسيهم بجنيهم حيارى . { ونفخ في الصور } ، لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة ، { فجمعناهم جمعاً } ، في صعيد واحد .
ثم نعود إلى سياق السورة . فنجده يعقب على ذكر ذي القرنين للوعد الحق بمشهد من مشاهد القيامة .
( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ، ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ؛ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ، الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ، وكان لا يستطيعون سمعا ) .
وهو مشهد يرسم حركة الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض . ومن كل جيل وزمان وعصر ، مبعوثين منشرين . يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه ، تتدافع جموعهم تدافع الموج وتختلط اختلاط الموج . . ثم إذا نفخة التجمع والنظام : ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا فإذا هم في الصف في نظام !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً * وَعَرَضْنَا جَهَنّمَ يَوْمَئِذٍ لّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } .
يقول تعالى ذكره : وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم ، بأنا ندكّ الجبال ونَنْسِفها عن الأرض نسفا ، فنذرها قاعا صفصفا ، بعضهم يموج في بعض ، يقول : يختلط جنهم بإنسهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن شيخ من بني فزارة ، في قوله : وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ قال : إذا ماج الجنّ والإنس ، قال إبليس : فأنا أعلم لكم علم هذا الأمر ، فيظعن إلى المشرق ، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ، ثم يظعن إلى المغرب ، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ، ثم يصعد يمينا وشمالاً إلى أقصى الأرض ، فيجد الملائكة قطعوا الأرض ، فيقول : ما من مَحِيص ، فبينا هو كذلك ، إذ عرض له طريق كالشراك ، فأخذ عليه هو وذريّته ، فبينما هم عليه ، إذ هجموا على النار ، فأخرج الله خازنا من خُزّان النار ، قال : يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك ، ألم تكن في الجنان ؟ فيقول : ليس هذا يوم عتاب ، لو أن الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه ، فيقول : فإن الله قد فرض عليك فريضة ، فيقول : ما هي ؟ فيقول : يأمرك أن تدخل النار ، فيتلكأ عليه ، فيقول به وبذرّيته بجناحيه ، فيقذفهم في النار ، فَتزفر النار زفرة فلا يبقى مَلَك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل إلا جثى لركبتيه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ قال : هذا أوّل القيامة ، ثم نفخ في الصور على أثر ذلك فجمعناهم جمعا .
وَنُفِخَ فِي الصّورِ قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في الصّور ، وما هو ، وما عُنِي به . واخترنا الصواب من القول في ذلك بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع ، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر في ذلك الموضع من الأخبار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : حدثنا أسلم ، عن بشر بن شغاف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أعرابيا سأله عن الصّور ، قال : «قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن سليمان التيميّ ، عن العجلي ، عن بشر بن شغاف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا محمد بن الحارث القنطري ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : كنت في جنازة عمر بن ذرّ فلقيت مالك بن مغول ، فحدثنا عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ وَحَنى الجَبْهَةَ ، وأصْغَى بالأذُنُ مَتى يُوءْمَرُ » فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «قُولُوا حَسْبُنا اللّهُ وَعَلى اللّهِ تَوَكّلْنا ، ولوِ اجْتَمَعَ أهْلُ مِنًى ما أقالُوا ذلكَ القَرْنَ » كذا قال ، وإنما هو ماأقلوا .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن الحجاج ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَم القَرْنَ ، وَحَنى ظَهْرَهُ وَجَحَظَ بعَيْنَيْهِ » ، قالوا : ما نقول يارسول الله ؟ قال : «قُولُوا : حَسْبُنا اللّهُ ، تَوَكّلْنا علَى اللّهِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْن قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ ، وَحَنى جَبْهَتَهُ ، يَسْتَمِعُ مَتى يُوءْمَرُ فَيَنْفُخُ فِيهِ » ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فكيف نقول ؟ قال : «تَقُولُونَ : حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، تَوَكّلنا على اللّهِ » .
حدثنا أبو كريب والحسن بن عرفة ، قالا : حدثنا أسباط ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا شعيب بن حرب ، قال : حدثنا خالد أبو العلاء ، قال : حدثنا عطية العوفيّ ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنى الجَبْهَةَ ، وأصْغَى بالأُذُنِ مَتى يُوءْمَرُ أنْ يَنْفُخَ ، وَلَوْ أنّ أهْلَ مِنًى اجْتَمَعُوا على القَرْنَ علَى أنْ يُقِلّوهُ مِنَ الأرْضِ ، ما قَدَرُوا عَلَيْهِ » قال : فأُبِلسَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشقّ عليهم ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قُولُوا : حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، عَلى اللّهِ تَوَكّلْنا » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن فلان ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب الْقُرَظيّ ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمّا فَرَغَ اللّهَ مِنْ خَلْقِ السّمَوَاتِ وّلأرْضِ ، خَلَقَ الصّورَ ، فأعْطاهُ إسْرَافِيلَ ، فَهُوَ وَضَعَهُ عَلى فِيهِ شاخِصٌ بَصَرُهُ إلى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتى يُوءْمَرُ » . قال أبو هريرة : يا رسول الله ، ما الصّور ؟ قال : «قَرْنٌ » . قال : وكيف هو ؟ قال : «قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ : الأُولى : نَفْخَةُ الفَزَعِ ، والثّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصّعْقِ ، والثّالِثَةُ : نَفْخَةُ القِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ » .
وقوله : فَجَمَعْناهُمْ جَمْعا يقول : فجمعنا جميع الخلق حينئذ لموقف الحساب جميعا .
الترك : حقيقته مفارقة شيء شيئاً كان بقربه ، ويطلق مجازاً على جعل الشيء بحالة مخالفة لحالة سابقة تمثيلاً لحال إلفائه على حالة ، ثم تغييرها بحال من كان قرب شيء ثم ذهب عنه ، وإنما يكون هذا المجاز مقيداً بحالة كان عليها مفعول تَرك ، فيفيد أن ذلك آخر العهد ، وذلك يستتبع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة .
والجملة عطف على الجملة التي قبلها ابتداء من قوله { حتى إذا بلغ بين السدين ، } فهذه الجملة لذكر صنع الله تعالى في هذه القصة الثالثة من قصص ذي القرنين إذ ألهمه دفع فساد ياجوج وماجوج ، بمنزلة جملة { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب } في القصة الأولى ، وجملة { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً } فجاء أسلوب حكاية هذه القصص الثلاث على نسق واحد .
و { يومئذ } هو يوم إتمام بناء السد المستفاد من قوله { فما اسطاعوا أن يظهروه } الآية .
و { يَمُوج } يضطرب تشبيهاً بموج البحر .
وجملة { يَمُوج } حال من { بعضهم } أو مفعول ثان ل { تَرَكنا } على تأويله ب ( جعلنا ) ، أي جعلنا ياجوج وماجوج يومئذ مضطربين بينهم فصار فسادهم قاصراً عليهم ودفع عن غيرهم .
والنار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله
لأنهم إذا لم يجدوا ما اعتادوه من غزو الأمم المجاورة لهم رجع قويهم على ضعيفهم بالاعتداء .
{ وَنُفِخَ فِى الصور فجمعناهم جَمْعاً }
تخلصٌ من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي من اختاره الله لإقامتها من خاصة أوليائه ، إلى غرض التذكير بالموعظة بأحوال الآخرة ، وهو تخلص يؤذن بتشبيه حال تموجهم بحال تموج الناس في المحشر ، تذكيراً للسامعين بأمر الحشر وتقريباً بحصوله في خيال المشركين . فإن القادر على جمع أمة كاملة وراء هذا السد ، بفعل من يسره لذلك من خلقه ، هو الأقدر على جمع الأمم في الحشر بقدرته ، لأنّ متعلقات القدرة في عالم الآخرة أعجب . وقد تقدّم أن من أهم أغراض هذه السورة إثبات البعث . واستعمل الماضي موضع المضارع تنبيهاً على تحقيق وقوعه .
والنفخ في الصور تمثيلية مكنية تشبيهاً لحال الدّاعي المطاع وحال المدعو الكثير العدد السريع الإجابة ، بحال الجند الذين ينفذون أمر القائد بالنفير فينفخون في بوق النفير ، وبحال بقية الجند حين يسمعون بوق النفير فيسرعون إلى الخروج . على أنه يجوز أن يكون الصور من مخلوقات الآخرة .
والحالة الممثلة حالة غريبة لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى .
وتأكيد فعلي { جمعناهم } و { عرضنا } بمصدريهما لتحقق أنه جمع حقيقي وعرض حقيقي ليسا من المجاز ، وفي تنكير الجمع والعرض تهويل .