إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا} (99)

وقوله عز وجل : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ } كلامٌ مَسوقٌ من جنابه تعالى معطوفٌ على قوله تعالى : { جَعَلَهُ دَكَّاء } ومحقِّقٌ لمضمونه أي جعلنا بعضَ الخلائق { يَوْمَئِذٍ } أي يوم إذ جاء الوعدُ بمجيء بعضِ مباديه { يَمُوجُ في بَعْضٍ } آخرَ منهم يضطربون اضطرابَ أمواجِ البحر ويختلط إنسُهم وجنُّهم حَيارى من شدة الهول ، ولعل ذلك قبل النفخةِ الأولى ، أو تركنا بعضَ يأجوجَ ومأجوجَ يموج في بعض آخرَ منهم حين يخرُجون من السد مزدحمين في البلاد . روي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابَّه ثم يأكلون الشجرَ ومن ظفِروا به ممن لم يتحصّن منهم من الناس ، ولا يقدِرون أن يأتوا مكةَ والمدينة وبيتَ المقدسِ ثم يبعث الله عز وجل نَغَفاً{[524]} في أقفائهم فيدخُل آذانَهم فيموتون موتَ نفس واحدة ، فيرسل الله تعالى عليهم طيراً فتلقيهم في البحر ثم يرسل مطراً يغسل الأرض ويطهرها من نَتْنهم حتى يترُكها كالزَّلَفة{[525]} ثم يوضع فيها البركة وذلك بعد نزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام وقتْل الدجال .

{ وَنُفِخَ في الصور } هي النفخةُ الثانية بقضية الفاء قوله تعالى { فجمعناهم } ولعل عدمَ التعرضِ لذكر النفخةِ الأولى لأنها داهيةٌ عامةٌ ليس فيها حالةٌ مختصة بالكفار ، ولئلا يقعَ الفصلُ بين ما يقع منها في النشأة الأولى من الأحوال والأهوالِ ، وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة ، أي جمعنا الخلائقَ بعدما تفرقت أوصالُهم وتمزقت أجسادُهم في صعيد واحدٍ للحساب والجزاء { جَمْعاً } أي جمعاً عجيباً لا يُكتَنُه كُنهُه .


[524]:النعف: دود يكون في أنوف الإبل والغنم. أو دود أبيض يكون في النوى. أو دود طوال سود وغبر وخضر تقطع الحرث في بطون الأرض.
[525]:الزلفة: المرآة أو وجهها. والصخرة الملساء.