معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

قوله تعالى : { والذين اتخذوا } ، قرأ : أهل المدينة والشام { الذين } بلا واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، وقرأ الآخرون : { والذين } بالواو .

قوله تعالى : { مسجدا ضرارا } ، نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين ، بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء ، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق : وديعة بن ثابت ، وجذام بن خالد ، ومن داره أخرج هذا المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، وجارية بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ومعتب بن قشير ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد ابن عثمان ، ورجل يقال له : بحزج ، بنوا هذا المسجد ضرارا ، يعني : مضارة للمؤمنين ، { وكفراً } ، بالله ورسوله ، { وتفريقاً بين المؤمنين } ، لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء ، فبنوا مسجد الضرار ، ليصلي فيه بعضهم ، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة ، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية . فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني على جناح سفر ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه " .

قوله تعالى : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل } ، أي : انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله . يقال : أرصدت له : إذا أعددت له . وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة ، وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح ، " فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر : ما هذا الذي جئت به ؟ قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال أبو عامر : فإنا عليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك لست عليها ، قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية ، فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين . وسماه أبا عامر الفاسق " . فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه ، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك قوله تعالى : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } ، وهو أبو عامر الفاسق ، ليصلي فيه إذا رجع من الشام . قوله : { من قبل } يرجع إلى أبي عامر يعنى حارب الله ورسوله من قبل أي : من قبل بناء مسجد الضرار . { وليحلفن إن أردنا } ، ما أردنا ببنائه ، { إلا الحسنى } ، إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . { والله يشهد إنهم لكاذبون } ، في قيلهم وحلفهم . روي أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم ، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما هموا به ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ، ومعن بن عدي ، وعامر بن السكن ، ووحشياً قاتل حمزة ، وقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه ، فخرجوا سريعا حتى أتو بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك : انظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي ، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه نارا ، ثم خرجوا يشتدون ، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله ، فحرقوه وهدموه ، وتفرق عنه أهله ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والنتن والقمامة . ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا . وروي أن بني عمرو بن عوف ، الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم ، فقال : لا ، ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين : لا تعجل علي ، فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاما قارئاً للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى ، ولم أعلم ما في أنفسهم ، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء . قال عطاء : لما فتح على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

97

( والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً ، وتفريقاً بين المؤمنين ، وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، واللّه يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبدا ، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، واللّه يحب المطهرين . أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان خير ? أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ? واللّه لا يهدي القوم الظالمين . لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ، إلا أن تَقطع قلوبهم ، واللّه عليم حكيم ) .

وقصة مسجد الضرار قصة بارزة في غزوة تبوك ، لذلك أفرد المنافقون الذين قاموا بها من بين سائر المنافقين ، وخصص لهم حديث مستقل بعد انتهاء الاستعراض العام لطوائف الناس في المجتمع المسلم حينذاك

قال ابن كثير في التفسير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول اللّه - [ ص ] - إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب . وكان قد تنصر في الجاهلية . وقرأ علم أهل الكتاب ؛ وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير . فلما قدم رسول اللّه - [ ص ] - مهاجراً إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية . وأظهرهم اللّه يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها ، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول اللّه - [ ص ] - فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم اللّه عز وجل ، وكانت العاقبة للمتقين . وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول اللّه [ ص ] . وأصيب في ذلك اليوم ، فجرح وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى ، وشج رأسه - صلوات اللّه وسلامه عليه - وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم اللّه بك عيناً يا فاسق يا عدو اللّه ! ونالوا منه وسبوه ، فرجع وهو يقول : واللّه لقد أصاب قومي بعدي شر !

وكان رسول اللّه - [ ص ] - قد دعاه إلى اللّه قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول اللّه - [ ص ] - أن يموت بعيداً طريداً ، فنالته هذه الدعوة . . وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمر رسول اللّه - [ ص ] - في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - [ ص ] - فوعده ومناه وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول اللّه - [ ص ] - ويغلبه ، ويرده عما هو فيه ؛ وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك ؛ فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج رسول اللّه - [ ص ] - إلى تبوك ؛ وجاءوا فسألوا رسول اللّه - [ ص ] - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، فيحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته ؛ وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ! فعصمه اللّه من الصلاة فيه ، فقال : " إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا - إن شاء الله - " فلما قفل - عليه السلام - راجعاً إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل جبريل بخبر مسجد الضرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم - مسجد قباء - الذي أسس من أول يوم على التقوى . فبعث رسول اللّه - [ ص ] - إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة . . [ وكذلك روى - بإسناده - عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة ] .

فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر اللّه رسوله - [ ص ] - ألا يقوم فيه ، وأن يقوم في المسجد الأول - مسجد قباء - الذي أقيم على التقوى من أول يوم ، والذي يضم رجالاً يحبون أن يتطهروا . ( واللّه يحب المطهرين ) . .

هذا المسجد - مسجد الضرار - الذي اتخذ على عهد رسول اللّه - [ ص ] - مكيدة للإسلام والمسلمين ، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين ، وإلا الكفر باللّه ، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة ، الكائدين لها في الظلام ، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين . .

هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين . تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام ، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه ! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين ! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق ، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق ! . . . وتتخذ في صور شتى كثيرة . .

ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها ؛ وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها . ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول اللّه - [ ص ] - بذلك البيان القوي الصريح :

والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ، وكفراً ، وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل . وليحلفن : إن أردنا إلا الحسنى ، واللّه يشهد إنهم لكاذبون .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .

يقول تعالى ذكره : والذين ابتنوا مسجدا ضرارا ، وهم فيما ذكرنا اثنا عشر نفسا من الأنصار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم ، قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان ، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار . وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلَى لنا فيه فقال : «إنّي على جَناحِ سَفَر وَحالِ شُغْلٍ » أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وَلَوْ قَدْ قَدِمْنا أتَيْناكُمْ إنْ شاءَ اللّهُ فَصَلّيْنَا لَكُمْ فِيهِ » . فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عديّ أو أخاه عاصم بن عديّ أخا بني العجلان ، فقال : «انْطَلِقا إلى هَذَا المَسْجِدِ الظّالِمِ أهْلُهُ فاهْدِمَاهُ وَحَرّقاهُ » فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل ، فأشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرّقاه وهدماه ، وتفرّقوا عنه . ونزل فيهم من القرآن ما نزل : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدا ضِرارا وكُفْرا إلى آخر القصة . وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد ، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر وأبناه : مجمع بن جارية ، وزيد بن جارية ، ونبتل بن الحرث وهم من بني ضبيعة ، وبَخْدَج وهو إلى بني ضبيعة ، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر . .

فتأويل الكلام : والذين ابتنوا مسجدا ضرارا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرا بالله لمحادّتهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفرّقوا به المؤمنين ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا . وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يقول : وإعدادا له ، لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله ، وكفر بهما وقاتل رسول الله مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد . وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حَزّبَ الأحزاب ، يعني حَزّبَ الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خذله الله ، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبيّ الله ، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه فيما ذكر عنه ليصلي فيه فيما يزعم إذا رجع إليهم ففعلوا ذلك . وهذا معنى قول الله جلّ ثناؤه : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنا إلاّ الحُسْنَى يقول جلّ ثناؤه : وليحلفنّ بانوه إن أردنا إلا الحسنى ببنائناه إلا الرفق بالمسلمين والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة وعن عجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه . وتلك هي الفعلة الحسنة . واللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبوُنَ في حلفهم ذلك ، وقيلهم ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى ، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السوآى ضرارا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لأبي عامر الفاسق .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا ، فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدكم ، واستعدوا بما استطعتم من قوّة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتُوا النبي عليه الصلاة والسلام ، فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة . فأنزل الله فيه : لا تَقُمْ فِيهِ أبَدا لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ أحَقّ أنْ تَقُومَ فِيهِ . . . إلى قوله : واللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْريقا بينَ المُؤْمِنِينَ قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء ، خرج رجال من الأنصار منهم بخدج جدّ عبد الله بن حنيف ، ووديعة بن حزام ، ومجمع بن جارية الأنصاري ، فبنوا مسجد النفاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبخدج : «وَيْلَكْ ما أرَدْتَ إلى ما أرَى ؟ » فقال : يا رسول الله ، والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب . فصدّقه رسول الله وأراد أن يعذره ، فأنزل الله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ يعني رجلاً منهم يقال له أبو عامر كان محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد انطلق إلى هرقل ، فكانوا يرصدون أبا عامر أن يصلي فيه ، وكان قد خرج من المدينة محاربا لله ورسوله . وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنا إلاّ الحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبُونَ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال : أبو عامر الراهب انطلق إلى قيصر ، فقالوا : إذا جاء يصلي فيه . كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال المنافقون لمن حارب الله ورسوله لأبي عامر الراهب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ قال : نزلت في المنافقين . وقوله : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال : هو أبو عامر الراهب .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال : هم بنو غنم بن عوف .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال : هم حيّ يقال لهم بنو غنم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال : هم حيّ يقال لهم بنو غنم .

قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم ، فقال الذين بنوا مسجد الضرار : إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا . . . الآية ، عمد ناس من أهل النفاق ، فابتنوا مسجدا بقباء ليضاهوا به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بعثوا إلى رسول الله ليصلي فيه . ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم حتى أطلعه الله على ذلك . وأما قوله : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ فإنه كان رجلاً يقال له أبو عامر ، فرّ من المسلمين فلحق بالمشركين فقتلوه بإسلامه ، قال : إذا جاء صلى فيه ، فأنزل الله : لا تَقُمْ فِيهِ أبَدا لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقُوَى . . . الآية .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا هم ناس من المنافقين بنوا مسجدا بقباء يضارّون به نبيّ الله والمسلمين . وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ كانوا يقولون : إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه . وكانوا يقولون : إذا قدم ظهر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وتَفرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال مسجد قباء ، كانوا يصلون فيه كلهم ، وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له أبو عامر أبو حنظلة غسيل الملائكة وضيفي وأخيه ، وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين . فخرج أبو عامر هاربا هو وابن بالين من ثقيف وعلقمة بن علاثة من قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لحقوا بصاحب الروم . فأما علقمة وابن بالين فرجعا فبايعا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلما ، وأما أبو عامر فتنصر وأقام . قال : وبنى ناس من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر ، قالوا : حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه وتفريقا بين المؤمنين يفرّقون بين جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء . وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ربما جاء السيل يقطع بيننا وبين الوادي ويحول بيننا وبين القوم فنصلي في مسجدنا فإذا ذهب السيل صلينا معهم قال : وبنوه على النفاق . قال : وأنهار مسجدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : وألقى الناس عليه النتن والقمامة . فأنزل الله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ لئلا يصلي في مسجد قباء جميع المؤمنين ، وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ أبي عامر ، وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنَا إلاّ الحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن أبي جعفر ، عن ليث : أن شقيقا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا بعد فقال : لا أُحِبّ أنْ أُصَلّيَ فِيهِ فإنّه بُنيَ على ضِرَار ، وكلّ مسجد بني ضرارا أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بُني على ضرار .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

وقرأ عاصم وعوام القراء والناس في كل قطر إلا بالمدينة «والذين اتخذوا » ، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهم «الذين اتخذوا » بإسقاط الواو ، وكذلك في مصحفهم ، قاله أبو حاتم ، وقال الزهراوي : وهي قراءة ابن عامر وهي في مصاحف أهل الشام بغير واو ، فأما من قرأ بالواو فذلك عطف على قوله { وآخرون } أي ومنهم الذين اتخذوا ، وأما من قرأ بإسقاطها فرفع { الذين } بالابتداء .

واختلف في الخبر فقيل الخبر { لا تقم فيه أبداً } [ التوبة : 108 ] قاله الكسائي ، ويتجه بإضمار إما في أول الآية وإما في آخرها ، بتقدير : لا تقم في مسجدهم ، وقيل : الخبر لا يزال بنيانهم قاله النحاس وهذا أفصح ، وقد ذكرت كون { الذين } بدلاً من ، { آخرون } ، آنفاً ، وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون{[5884]} أو نحوه ، وأما الجماعة المرادة ب { الذين اتخذوا } ، فهم منافقو بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، وأسند الطبري عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أنه قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنَّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنَّا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال إني على جناح سفر وحال شغل ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ، فلما أقبل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه ، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف{[5885]} ، وذكر النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لهدمه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشياً مولى المطعم بن عدي{[5886]} ، وكان بانوه اثني عشر رجلاً ، خذام بن خالد ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق{[5887]} وثعلبة بن حاطب{[5888]} ومتعب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر{[5889]} وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وجارية بن عمرو{[5890]} وابناه مجمع بن جارية وهو كان إمامهم ، وحلف لعمر بن الخطاب في خلافته أنه لم يشعر بأمرهم وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث ، ويخرج وهو من بني ضبيعة{[5891]} وبجاد بن عثمان{[5892]} ووديعة بن ثابت ويخرج منهم هو الذي حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أردت إلا الحسنى » والتوسعة علينا وعلى من عجز أو ضعف عن المسير إلى مسجد قباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما أردنا إلا الحسنى » ، والآية تقتضي شرح شيء من أمر هذه المساجد ، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وقت الهجرة بنى مسجداً في بني عمرو بن عوف وهو مسجد قباء ، وقيل وجده مبنياً قبل وروده ، وقيل وجده موضع صلاة فبناه وتشرف القوم بذلك ، فحسدهم من حينئذ رجال من بني عمهم من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، فكان فيهم نفاق ، وكان موضع مسجد قباء مربطاً لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية ، فكان المنافقون يقولون والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال ، وكان أبو عامر عبد عمرو المعروف بالراهب منهم ، وكانت أمه من الروم فكان يتعبد في الجاهلية فسمي الراهب ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان سيداً نظيراً{[5893]} وقريباً من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فلما جاء الله بالاسلام نافق ولم يزل مجاهراً بذلك فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق ، ثم خرج في جماعة من المنافقين فحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهراً لعداوته ، فلما فتح الله مكة هرب إلى الطائف .

فلما أسلم أهل الطائف خرج هارباً إلى الشام يريد قيصر مستنصراً به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب إلى قومه المنافقين منهم أن ابنوا مسجداً مقاومة لمسجد قباء وتحقيراً له ، فإني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمداً وأصحابه من المدينة فبنوه ، وقالوا سيأتي أبو عامر ويصلي فيه ويتخذه متعبداً ويسر به ، ثم إن أبا عامر هلك عند قيصر ونزل القرآن في أمر مسجد الضرار فذلك قوله { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } يعني أبا عامر وقولهم سيأتي أبو عامر ، وقرأ الأعمش «للذين حاربوا الله » وقوله { ضراراً } أي داعية للتضار من جماعتين فلذلك قال { ضراراً } وهو في الأكثر مصدر ما يكون من اثنين وإن كان المصدر الملازم لذلك مفاعلة كما قال سيبويه{[5894]} ، ونصب «ضرار » وما بعده على الصدر في موضع الحال ، ويجوز أن يكون على المفعول من أجله ، وقوله { بين المؤمنين } يريد بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء فإن من جاوز مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان ، وقيل أراد بقوله { بين المؤمنين } جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا بحسب الخلاف في المسجد المؤسس على التقوى وسيأتي ذلك ، قال النقاش يلزم من هذا أن لا يصلى في كنيسة ونحوها لأنها بنيت على شر من هذا كله وقد قيل في هذا لا تقم فيه أبداً .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تفقه غير قوي{[5895]} ، و «الإرصاد » الإعداد والتهيئة ، والذي حارب الله ورسوله هو أبو عامر الفاسق ، وقوله { من قبل } يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، والحالف المراد في قوله { ليحلفن } هو يخرج ومن حلف من أصحابه ، وكسرت الألف من قوله { إنهم لكاذبون } لأن الشهادة في معنى القول ، وأسند الطبري عن شقيق{[5896]} أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة{[5897]} فوجد الصلاة قد فاتته فقيل له إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني ضراراً ورياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار ، وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات .


[5884]:- وقال الزمخشري: {الذين اتخذوا} محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة}.
[5885]:- أخرجه ابن إسحاق، وابن مردويه عن أبي رهم بن كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة، وأخرج مثله ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما. (الدر المنثور).
[5886]:- هو وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه.
[5887]:- خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف، وهو بالخاء والذال المعجمتين.
[5888]:- نقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال: "وفيه نظر لأنه شهد بدرا".
[5889]:- كتبت بالزاي في كل المراجع تقريبا ما عدا القرطبي فقد كتبت فيه بالذال.
[5890]:- في "القرطبي" و"الدر المنثور": جارية بن عامر، وفي "البحر المحيط" و"الألوسي": حارثة بن عامر.
[5891]:- في بعض النسخ جاء اسمه: (يخرج) بالياء والخاء والراء، وفي الدر المنثور: يخدج بالدال المهملة، ولكنا اخترنا ما يتفق مع ما في الطبري وسيرة ابن هشام، والبحر المحيط.
[5892]:- بالباء المفتوحة.
[5893]:-النّظير: المثل والمساوي، فهو مساو لابن سلول في المكانة بين قومه، وفي أبي عامر الراهب هذا يقول كعب بن مالك: معاذ الله من فعل خبيـث كسعيك في العشيرة عبد عمرو وقلت بأن لي شرفا وذكرا فقد تابعت إيمانا بكفـــــر
[5894]:- قال بعض العلماء: الضرر: الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة- والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة.
[5895]:- قال القرطبي: "لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واتخذ اليهود البيعة موضعا للعبادة بزعمهم كالمسجد لنا فاقترفا، وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته صحيحة، وذكر البخاري أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل".
[5896]:- عرف بهذا اثنان: شقيق بن إبراهيم الأزدي البلخي، أبو علي، زاهد صوفي من مشاهير المشايخ في خراسان، من أول من تكلم في علوم الصوفية، وكان من كبار المجاهدين، استشهد سنة 194هـ. وشقيق بن ثور بن عفير السدوسي البصري، من أشراف العرب في العصر الأموي، شهد صفين مع علي، وقدم على معاوية في خلافته، وهو من التابعين، ومن الثقات عند رجال الحديث، وتوفي سنة 64هـ. ونرجح أن المراد هو الثاني لأن الأول عاش ومات في خراسان، والحادثة المروية هنا تتعلق ببني غاضرة وهم من العرب.
[5897]:- في الصحاح: غاضرة: قبيلة من بني أسد، وحي من بني صعصة، وبطن من ثقيف، وفي القاموس: وهم بنو غاضرة بن بغيض بن ثابت بن غطفان بن سعد.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

هذا كلام على فريق آخر من المؤاخَذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من أجلها ، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجداً حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم .

فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غيرَ مفتتحة بواو العطف ، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر . ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله . وقرأها البقية بواو العطف في أولها ، فتكون معطوفةً على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل مَن ذكر فيما قبلها . وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد .

وقوله { الذين } مبتدأ وخبره جملة : { لا تقم فيه أبداً } كما قاله الكسائي . والرابط هو الضمير المجرور من قوله : { لا تقم فيه } لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعولُ صلةِ الموصول فهو سببي للمبتدأ ، إذ التقدير : لا تقم في مسجد اتخذوه ضراراً ، أو في مسجدهم ، كما قدره الكسائي . ومن أعربوا { أفمن أسس بنيانه } [ التوبة : 109 ] خبراً فقد بعدوا عن المعنى .

والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجداً قُرب مسجد قُباء لقصد الضرار ، وهم طائفة من بني غُنْم بن عَوف وبني سالم بن عَوف من أهل العوالي . كانوا اثني عشر رجلاً سماهم ابن عطية . وكان سبب بنائهم إيَّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو ، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين . ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزَّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة . ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف ، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر ، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجداً ليخلصوا فيه بأنفسهم ، ويعِدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة . فانتدب لذلك اثنا عشر رجلاً من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعَة بن زيد وغيرهم ، فبنوه بجانب مسجد قباء ، وذلك قُبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبوك . وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية ، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيراً .

والضرار : مصدر ضار مبالغة في ضر ، أي ضِراراً لأهل الإسلام . والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غُنم وبني سالم عن قباء .

والإرصاد : التهيئة . والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب ، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ ، فقوله : { من قبلُ } إشارة إلى ذلك ، أي من قبل بناء المسجد .

وجملة : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } معترضة ، أو في موضع الحال . والحسنى : الخير .

وجملة : { والله يشهد إنهم لكاذبون } معترضة .