فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

{ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين } لما ذكر سبحانه أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة ، عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم ، وهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار في إعرابه وجوه ذكرها في الجمل .

وقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة :

الأول : الضرار لغيرهم وهو المضارة . الثاني : الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق . الثالث : التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى .

الرابع قوله { وإرصادا لمن حارب الله ورسوله } قال الزجاج : الإرصاد الانتظار . وقال ابن قتيبة : الإرصاد الانتظار مع العداوة ، وقال الأكثرون : هو الإعداد ، والمعنى متقارب ، يقال أرصدت لكذا إذا أعددته مرتقبا له ، وبه قال أبو زيد ، يقال رصدته وأرصدته في الخير وأرصدت له في الشر ، وقال ابن الأعرابي : لا يقال أرصدت ومعناه ارتقبت ، والمراد بمن حارب الله ورسوله المنافقون وهم اثنا عشر رجلا منهم أبو عامر الراهب ، أي أعدوه لهؤلاء وارتقبوا به وصولهم وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنون .

{ من قبل } أي من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار أو المعنى لمن وقع منه الحرب لله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار { وليحلفن } جواب قسم مقدر أي والله { إن أردنا إلا الحسنى } أي ما أردنا ببنائه إلا الخصلة أو الإرادة الحسنى ، وهي الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المطر والحر ، فرد الله عليهم بقوله { والله يشهد } أي يعلم { أنهم لكاذبون } فيما حلفوا عليه وقالوه .

عن ابن عباس قال : هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر الراهب والد حنظلة غسيل الملائكة ابنوا مسجدكم واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروح فأخرج محمدا وأصحابه ، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة ، فأنزل الله { لا تقم فيه أبدا } .

وعنه قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار فبنوا مسجد النفاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بخدج ما أردت إلا ما أرى ، قال : ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب ، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأراد أن يعذره ، فأنزل الله { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا } الآية .

ثم نهى الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار فقال { لا تقم فيه أبدا } أي في وقت من الأوقات ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة هدموه وأحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيه الجيف ، والنهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه ، وقد يعبر عن الصلاة بالقيام ، يقال فلان يقوم الليل أي يصلي ، ومنه الحديث الصحيح ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) {[920]} .


[920]:- مسلم 759- البخاري 33.