الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

وأما الجماعة المرادة ب{ الذين اتخذوا مَسْجِدًا } ، فهم منافقو بني غَنْم بن عَوْف ، وبني سَالمِ بنِ عَوْف ، وأسند الطبريُّ ، عن ابن إِسحاق ، عن الزُّهْرِيِّ وغيره ، أنه قال : أَقْبَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تَبُوكَ ، حتى نَزَلَ بذي أَوَانَ - بلدٌ بينه وبين المدينةِ ساعةٌ من نهار وكان أصحابُ مسجِدِ الضِّرَارِ ، قد أَتَوهُ صلى الله عليه وسلم وهو يتجهَّز إِلى تبوكِ ، فقالوا : يا رسُولَ اللَّهِ ؛ إنا قد بَنَيْنَا مسَجِداً ؛ لِذِي العِلَّة والحاجة واللَّيْلَة المَطِيرة ، وإِنا نُحِبُّ أَن تأتينا فتصلِّي لنا فيه ، فقال : ( إِنِّي على جَنَاحِ سَفَرٍ ، وَحَالِ شُغْلٍ ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ ، فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ ) ، فَلَمَّا قَفَلَ ، وَنَزَلَ بِذِي أوَان ، نَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ في شَأْنِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُنِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ ، أو أخاهُ عاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ ، فَقالَ : ( انطلقا إِلَى هَذَا المَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ ، فاهدماه ، وَحَرِّقَاه ) فانطلقا مُسْرِعَيْنِ فَفَعَلاَ وَحَرَقَاهُ ، وذكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث لِهَدْمِهِ وتحريقه عَمَّار بن ياسر وَوَحْشِيًّا مَوْلَى المُطْعم بن عَدِيِّ ، وكان بَانُوهُ اثني عَشَرَ رَجُلاً ، منهم ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ ، ومُعْتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، ونَبْتَلُ بْنُ الحَارِثِ وغيرهم ، وروي أنه لما بنى صلى الله عليه وسلم مَسْجداً في بني عمرو بن عوف وقْتَ الهِجْرَة ، وهو مَسْجِدُ «قُبَاءٍ » وتشرَّفَ القومُ بذلك ، حَسَدَهم حينئذٍ رجالٌ من بني عَمِّهم من بني غَنْم بْنِ عَوْفٍ ، وبني سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ، وكان فيهم نفاقٌ ، وكان موضعُ مَسْجِدِ «قُبَاءٍ » مربطاً لحمارِ امرأة من الأنصار ، اسمها : لَيَّةُ ، فكان المنافقُونَ يقولُونَ : واللَّه لا نَصْبِرُ على الصَّلاة في مَرْبَطِ حمارِ لَيَّةَ ، ونحو هذا من الأقوال ، وكان أبو عامرٍ المعروفُ بِالرَّاهِبِ منهم ، وهو أبو حنظلة غسيلِ الملائكةِ ، وكان سيِّداً من نظراء عبدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ ، فلما جاء اللَّهُ بالإِسلام ، نافق ، ولم يَزَلْ مجاهراً بذلك ، فسمَّاه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الفاسِق ، ثم خرج في جماعة من المنافقينَ ، فَحَزَّبَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردَّهم اللَّه بغَيْظهم ، أقام أبو عامر ب«مكة » مظهراً لعداوته ، فلما فتح اللَّه «مكة » ، هَرَبَ إِلى «الطائف » ، فلما أسلم أهْلُ الطائف ، خرج هارباً إِلى الشام ، يريد قَيْصَرَ مستنصراً به عَلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكتب إلى المنافقين من قومه أَن ابنوا مسجداً ، مقاومةً لمسجد «قُبَاء » ، وتحقيراً له ، فإِني سآتي بِجَيْشٍ من الرومِ ، أُخْرِجُ به محمَّداً ، وأصحابه من «المدينة » ، فبَنُوهُ وقالوا : سيأتي أبو عامرٍ ويصلي فيه ، فذلك قوله : { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } يعني : أبا عامر ، وَقَوْلَهُمْ : سيأتي أبو عامر ، وقوله : { ضِرَارًا } أي : داعيةً للتضارُرِ من جماعتين .

وقوله : { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين } [ التوبة : 107 ] .

يريدُ : تفريقاً بين الجماعة التي كانَتْ تصلِّي في مسجد «قباء » ، فإن مَنْ جاور مَسْجدهم كانوا يَصْرِفُونه إليه ، وذلك داعيةٌ إلى صرفه عن الإِيمان ، وقيل : أراد بقوله : { بَيْنَ المؤمنين } جماعةَ مسجدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وروي : أنَّ مسجد الضِّرار ، لَمَّا هدم وأُحرِق ، اتخذ مزبَلَةً ترمى فيه الأقذار والقِمَامَات ،