الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

قوله : { الذين{[29944]} اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا }[ 107 ] ، الآية .

من قرأ : { الذين } بالواو{[29945]} ، فهو في موضع رفع ، والخبر محذوف ، والمعنى : ومنهم الذين ، مردود على : { وممن حولكم }[ 102 ]{[29946]} .

وقيل : هو مردود على { ومنهم الذين يوذون النبيء } ، ( والذين اتخذوا مسجدا ){[29947]} .

ومن قرأ { الذين اتخذوا } بغير{[29948]} واو ، فهو{[29949]} في موضع رفع بالابتداء ، وفي الخبر تقديران :

قال الكسائي الخبر : { لا تقم فيه } ، أي : لا تقم في مسجدهم{[29950]} .

وقيل الخبر : { لا يزال بنيانهم } ، وهذا أحسن{[29951]} .

{ ضرارا } مصدر{[29952]} ، وإن شئت مفعولا من أجله{[29953]} .

ومعنى الآية : إن اثني عشر رجلا من المنافقين كلهم ينتمون إلى الأنصار ، ويعتدون إلى بني عوف ، يظهرون الإسلام ، ويبطنون الكفر ، بنوا مسجدا ضرارا بمسجد " قباء " {[29954]} ، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل خروجه إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني على جناح سفر وشغل ، ولو قد قدمنا ، إن شاء الله ، أتيناكم فصلينا لكم فيه . فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم ، راجعا [ من سفره ]{[29955]} ، بقرب المدينة{[29956]} ، بلغه الخبر ، فأرسل قوما لهدمه ، فهُدم وأُحرق{[29957]} .

ومعنى { ضرارا } أي : ضرارا{[29958]} لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفرا بالله ، لمخادعتهم النبي{[29959]} عليه السلام{[29960]} .

{ وتفريقا بين المومنين }[ 107 ] .

يريدون أن يتفرق جماعة المسلمين في صلواتهم .

{ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من [ قبل ]{[29961]} }[ 107 ] .

أي : إعدادا{[29962]} له ، وهو أبو عامر الذي كان حزَّب الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خذله الله عز وجل ، لحق بالروم ، يطلب النصر من ملكهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب إلى أهل مسجد الضرار ، وأمرهم ببناء المسجد الذي بنوه ليصلي لهم فيه ، إذا رجع{[29963]} .

{ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى }[ 107 ] .

أي : يحلف من بناه ما أردنا بذلك إلا الخير ، والرفق بالمسلمين في المطر ، والتوسعة على الضعفاء ، { والله يشهد إنهم لكاذبون }[ 107 ] ، في قولهم ذلك ، بل بنوه لتفريق المؤمنين{[29964]} .

قال ابن عباس : وجه أبو عامر إلى ناس من الأنصار أن يبنوا مسجدا ، ويستعدوا ما يستطيعون من قوة ومن سلاح ، وقال لهم : إني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتى بجند{[29965]} من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه .

وكان أبو عامر من الروم أصله ، وكان يقول : إنه راهب{[29966]} ، فبنوا المسجد له ، ليأتي ويصلي فيه ، وليكون اجتماعهم للطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه فيه . فلما فرغوا من مسجدهم ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحب أن تصلي فيه ، وتدعو لنا بالبركة .

فأنزل الله/ عز وجل : { لا تقم فيه أبدا لمسجد/أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه }{[29967]} .

قال قتادة : لما دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي في مسجدهم دعا بقميصه ليأتي إليهم ، فأطلعه الله على أمرهم{[29968]} .

قال الضحاك : بنوا مسجد الضرار بقُباء ، وكذلك قال قتادة{[29969]} .

قال ابن عباس : لما بنى النبي عليه [ السلام ]{[29970]} مسجد قُباء ، بنى [ قوم ]{[29971]} من الأنصار مسجدا للضرار ، ليضاهوا به النبي عليه السلام والمؤمنين في مسجدهم{[29972]} .

قوله : { من قبل } ، وقف{[29973]} في قراءة من قرأ : { الذين } بغير واو{[29974]} إن قدرت أن الخبر : ومنهم الذين{[29975]} .

وإن قدرت أن يكون { لا يزال } الخبر ، أو { لا تقم فيه أبدا }{[29976]} ، لم يجز الوقف على : { من قبل }{[29977]} .

و{ لا تقم فيه أبدا } وقف{[29978]} ، وكذلك يقدر جميع هذه الآية{[29979]} .


[29944]:في المخطوطتين: (والذين) وهي قراءة جمهور القراء كما سلف. وأثبت قراءة نافع.
[29945]:انظر: ما سلف ص 980، هامش 9.
[29946]:انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/468، وإعراب القرآن للنحاس 2/235، والمحرر الوجيز 3/80، والتبيان 2/659، 660. وتفسير القرطبي 8/161، والبحر المحيط 5/101، 102، والدر المصون 3/502.
[29947]:انظر: الكشف 1/507.
[29948]:انظر: ما سلف قريبا، ص 3150، هامش 4.
[29949]:فهو، تحرفت في الأصل إلى فهم.
[29950]:إعراب القرآن للنحاس 2/235، وتعقبه. وأورده القرطبي في تفسيره 8/161.
[29951]:وهو قول النحاس في إعراب القرآن 2/235، وأورده في مشكل إعراب القرآن 1/336، وينظر: البحر المحيط 5/101، 102، والدر المصون 3/502.
[29952]:في الأصل: مقدر، وهو تحريف ناسخ. وفي ر: مصدرا.
[29953]:قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن 2/468: "انتصب" {ضرارا} مفعولا له، المعنى: اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد. فلما حذفت "اللام" أفضى الفعل فنصب. ويجوز أن يكون مصدرا محمولا على المعنى؛ لأن اتخاذهم المسجد على غير التقوى معناه: ضاروا به ضرارا"، والوجهان في مشكل إعراب القرآن 1/336، وإعراب القرآن للنحاس 2/235، والمحرر الوجيز 3/82، والبيان 1/405، والبحر المحيط 5/102، انظر: التبيان 2/660، والدر المصون 3/502.
[29954]:هو بضم القاف، وتخفيف الباء، وبالمد، وهو مذكر منون مصروف. هذه هي اللغة الفصيحة المشهورة. تهذيب الأسماء واللغات 3/286، انظر: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة 222.
[29955]:زيادة يقتضيها السياق من أحكام ابن العربي الذي نقل عن مكي.
[29956]:قال ابن إسحاق، كما في سيرة ابن هشام 2/529،: "نزل بـ"ذي أوان" بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار". انظر: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة 34.
[29957]:جامع البيان 14/468، بتصرف، وهو في أحكام القرآن لابن العربي 2/1012، بنص عبارة مكي واختصاره.
[29958]:قال الفخر الرازي في تفسيره 8/198، :"...والضرار: محاولة الضر، كما أن الشقاق: محاولة ما يشق". وقال القرطبي في تفسيره 8/162: "وكل مسجد بني على ضرار، أو رياء وسمعة، فهو في حكم مسجد الضرار، لا تجوز الصلاة فيه...، وقد أجمع العلماء أن من صلى في كنيسة أو بيعة [بالكسر] على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة...، وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة، وحض الشرع على بنائه...يُهدم ويُنزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه....وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضرارا منع...".
[29959]:جامع البيان 14/469، وفيه: "لمحادَّتهم" مكان "لمخادعتهم".
[29960]:في "ر"، رمز: صم صلى الله عليه وسلم.
[29961]:زيادة من "ر".
[29962]:في المخطوطتين: إعدارا، براء مهملة، وهو تحريف لا معنى له، وصوابه في جامع البيان الذي نقل عنه مكي.
[29963]:جامع البيان 14/469، 470، بتصرف.
[29964]:انظر: جامع البيان 14/470.
[29965]:في المخطوطتين: فإني عبد من الروم إني، وهو تحريف ناسخ، وتصويبه من جامع البيان الذي نقل عنه مكي.
[29966]:في أسباب النزول للواحدي 264: "كان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح، وسماه النبي عليه السلام، أبا عامر الفاسق" انظر: مزيد بيان في تفسير ابن كثير 2/387.
[29967]:جامع البيان 14/470، وتفسير ابن كثير 2/388، والدر المنثور 4/284، بزيادة في لفظه، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير 6/1881، مختصرا.
[29968]:جامع البيان 14/473، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1879، والدر المنثور 4/285.
[29969]:جامع البيان 14/473، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1879، والدر المنثور 4/285، 286.
[29970]:زيادة لازمة وفي "ر"، رمز: صم صلى الله عليه وسلم.
[29971]:زيادة من "ر".
[29972]:جامع البيان 14/470، 471، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1881، والدر المنثور 4/285، بأطول من هذا.
[29973]:تام عند نافع كما نص عليه النحاس في القطع والإئتناف 367.
[29974]:مضى تخريجها قريبا ص 3150، هامش 4.
[29975]:القطع والإئتناف 367، 368، وبشأن تقدير الخبر انظر: ما سلف ص 3150، هامش 4.
[29976]:انظر: كلامه في تقدير الخبر فيما سلف قريبا ص 3151.
[29977]:القطع والإئتناف 367.
[29978]:تام عند يعقوب، كما في القطع والإئتناف 368، وكاف في المكتفى 299، وحسن في المقصد 170، انظر: معاني القرآن للفراء 1/452، ومنار الهدى 170.
[29979]:في القطع والإئتناف 368: قال يعقوب: {أبدا} فهذا التمام من الوقف. ثم يقول: "لمسجد فيه" فهذا التمام قال أبو جعفر [النحاس]: فهذا يصح على تقدير: منهم الذين، وهو حسن لأن المضمرات مختلفة.