الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ } : قرأ نافع وابن عامر : " الذين اتخذوا " بغير واو ، والباقون بواو العطف . فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفِهم ، فإنَّ مصاحف المدينة والشام حُذفت منها الواوُ وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم . و " الذين " على قراءة مَنْ أسقط الواوَ قبلها فيها أوجه ، أحدها : أنها بدلٌ مِنْ " آخرون " قبلها . وفيه نظر لأن هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً ، لا يُقال في حَقِّهم إنهم مُرْجَوْن لأمر الله ، لأنه يُروى في التفسير أنهم من كبار المنافقين كأبي عامر الراهب .

الثاني : أنه مبتدأ وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ أحدها : أنه " أفَمَنْ أَسَّسَ بنيانَه " والعائد محذوفٌ تقديره : بنيانَه منهم . الثاني : أنه " لا يزال بنيانُهم " قاله النحاس والحوفي ، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل . الثالث : أنه " لا تقمْ فيه " قاله الكسائي . قال ابن عطية : " ويتجه بإضمارٍ : إمَّا في أول الآية ، وإمَّا في آخرها بتقدير : لا تقم في مسجدهم " . الرابع : أن الخبرَ محذوفٌ تقديرُه : معذَّبون ونحوه ، قاله المهدوي .

الوجه الثالث أنه منصوبٌ على الاختصاص . وسيأتي هذا الوجهُ أيضاً في قراءة الواو .

وأمَّا قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم ، إلا أنه يمتنع وجهُ البدل مِنْ " آخرون " لأجل العاطف . وقال الزمخشري : " فإن قلت : " والذين اتخذوا " ما محلُّه من الإِعراب ؟ قلت : محلُّه النصب على الاختصاص ، كقوله تعالى :

{ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ } [ النساء : 162 ] . وقيل : هو مبتدأ وخبرُه محذوفٌ معناه : فيمَنْ وَصَفْنا الذين اتخذوا ، كقوله : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } [ المائدة : 38 ] ، قلت : يريد على مذهب سيبويه فإن تقديره : فيما يُتْلى عليكم السارق ، فحذف الخبرَ وأبقى المبتدأ كهذه الآية .

قوله : { ضِرَاراً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها :/ أنه مفعولٌ من أجله أي : مُضَارَّةً لإِخوانهم . الثاني : أنه مفعولٌ ثان ل " اتَّخذ " قاله أبو البقاء . الثالث : أنه مصدر في موضع الحال من فاعل " اتخذوا " أي : اتخذوه مضارِّين لإِخوانهم ، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرية أي : يَضُرُّون بذلك غيرهم ضِراراً ، ومتعلَّقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ أي : ضِراراً لإِخوانهم وكفراً بالله .

قوله : { مِن قَبْلُ } فيه وجهان ، أحدهما وهو الذي لم يذكر الزمخشري غيره أنه متعلقٌ بقوله : " اتخذوا " أي : اتخذوا مسجداً مِنْ قبل أن ينافقَ هؤلاء . والثاني : أنه متعلقٌ ب " حارب " أي : حارب مِنْ قبل اتِّخاذ هذا المسجد .

قوله : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا } لَيَحْلِفُنَّ : جوابُ قسم مقدر أي : والله ليحلِفُنَّ . وقوله : " إن أَرَدْنا " جوابٌ لقولِه : " ليحلِفُنَّ " فوقع جوابُ القسم المقدر فعلَ قسم مجابٍ بقوله : " إنْ أَرَدْنا " . " إنْ " نافية ولذلك وقع بعدها " إلا " . و " الحُسْنى " صفةً لموصوفٍ محذوفٍ أي : إلا الخصلة الحسنى أو إلا الإِرادةَ الحسنى . وقال الزمخشري : " ما أَرَدْنا ببناء هذا المسجد إلا الخَصْلة الحسنى ، أو إلا لإِردة الحسنى وهي الصلاة " . قال الشيخ : " كأنه في قوله : " إلا الخصلة الحُسْنى " جعله مفعولاً ، وفي قوله : " أو لإِرادة الحسنى " جعله علةً فكأنه ضَمَّن " أراد " معنى قَصَد أي : ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإِرادة الحسنى " قال : " وهذا وجهٌ متكلف " .