قوله تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة } أي قومك . وقيل : من كان على دينك ، كقوله تعالى : ( وكان يأمر أهله بالصلاة ) { واصطبر عليها } أي : اصبر على الصلاة ، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر { لا نسألك رزقاً } لا نكلفك أن ترزق أحداً من خلقنا ، ولا أن ترزق نفسك وإنما نكلفك عملاً { نحن نرزقك والعاقبة } الخاتمة الجميلة المحمودة { للتقوى } أي لأهل التقوى . قال ابن عباس : الذين صدقوك واتبعوك واتقوني . وفي بعض المسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة ، وتلا هذه الآية .
( وأمر أهلك بالصلاة ) . . فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم ؛ وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله ، فتوحد اتجاههم العلوي في الحياة . وما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله .
( واصطبر عليها ) . . على إقامتها كاملة ؛ وعلى تحقيق آثارها . إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . وهذه هي آثارها الصحيحة . وهي في حاجة إلى اصطبار على البلوغ بالصلاة إلى الحد الذي تثمر فيه ثمارها هذه في المشاعر والسلوك . وإلا فما هي صلاة مقامة . إنما هي حركات وكلمات .
هذه الصلاة والعبادة والاتجاه إلى الله هي تكاليفك والله لا ينال منها شيئا . فالله غني عنك وعن عبادة العباد : ( لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى )إنما هي العبادة تستجيش وجدان التقوى ( والعاقبة للتقوى ) . فالإنسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه . يعبد فيرضى ويطمئن ويستريح . ويعبد فيجزى بعد ذلك الجزاء الأوفى . والله غني عن العالمين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَىَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " وأْمُرْ يا محمد أهْلَكَ بالصّلاةِ وَاصْطَبرْ عَلَيْها " يقول : واصطبر على القيام بها ، وأدائها بحدودها أنت لا نَسْئَلُكَ رِزْقا يقول : لا نسألك مالاً ، بل نكلفك عملاً ببدنك ، نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ يقول : نحن نعطيك المال ونكسبكه ، ولا نسألكه .
وقوله : " والعاقبَةُ للتّقْوَى " يقول : والعاقبة الصالحة من عمل كلّ عامل لأهل التقوى والخثية من الله دون من لا يخاف له عقابا ، ولا يرجو له ثوابا . وبنحو الذي قلنا في قوله " وأْمُرْ أهْلَكَ بالصّلاةِ وَاصْطَبرْ عَلَيْها " قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ، قال : كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره ، فقال : " لا تَمُدّنّ عَيَنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَياةِ الدّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبْقَى وأْمُرْ أهْلَكَ بالصّلاةِ وَاصْطَبرْ عَلَيْها لا نَسألُكَ رِزْقا نحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقِبَةُ للتّقْوَى " ثم ينادي : الصلاة الصلاة ، يرحمكم الله .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه كان إذا رأى شيئا من الدنيا جاء إلى أهله ، فقال : الصلاة وأْمُرْ أهْلَكَ بالصّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسألُكَ رِزْقا .
حدثنا العباس بن عبد العظيم ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : كان يبيت عند عمر بن الخطاب من غلمانه أنا ويرفأ ، وكانت له من الليل ساعة يصليها ، فإذا قلنا لا يقوم من الليل كان قياما ، وكان إذا صلى من الليل ثم فرغ قرأ هذه الاَية : " وأْمُرْ أهْلَكَ بالصّلاةِ وَاصْطَبرْ عَلَيْها . . . " الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، مثله .
{ وأمر أهلك بالصلاة } أمره بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمر بها ليتعاونوا على الاستعانة بها على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة . { واصطبر عليها } وداوم عليها . { لا نسألك رزقا } أي أن ترزق نفسك ولا أهلك . { نحن نرزقك } وإياهم ففرغ بالك لأمر الآخرة . { والعاقبة } المحمودة . { للتقوى } لذوي التقوى . روي " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية .
ذِكر الأهل هنا مقابل لذِكر الأزواج في قوله { إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } [ طه : 131 ] فإن من أهل الرجل أزواجَه ، أي مِتْعَتُك ومتعةُ أهلك الصلاةُ فلا تلفتوا إلى زَخَارف الدنيا . وأهل الرجل يكونون أمثل من ينتمون إليه .
ومن آثار العمل بهذه الآية في السنّة ما في « صحيح البخاري » : أن فاطمة رضي الله عنها بلغها أن سبياً جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتت تشتكي إليه ما تلقى من الرحى تسأله خادماً من السبي فلم تجده . فأخبرت عائشةُ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءَها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذت وعليّ مضجعَهما فجلس في جانب الفراش وقال لها ولِعَليّ : " ألا أُخبِركُما بخير لكما مما سألتما تسبّحان وتحمدان وتكبران دُبر كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين فذلك خير لكما من خادم "
وأمَر الله رسوله بما هو أعظم مما يأمر به أهله وهو أن يصْطبر على الصلاة . والاصطبار : الانحباس ، مطاوع صبره ، إذا حبسه ، وهو مستعمل مجازاً في إكثاره من الصلاة في النوافل . قال تعالى : { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً } [ المزمل : 1 ] الآيات ، وقال { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } [ الإسراء : 79 ] .
وجملة { لا نسألك رزقاً } معترضة بين التي قبلها وبين جملة { نحن نرزقك } جعلت تمهيداً لهاته الأخيرة .
والسؤال : الطلب التكليفي ، أي ما كلفناك إلاّ بالعبادة ، لأنّ العبادة شكر لله على ما تفضل به على الخلق ولا يطلب الله منهم جزاءً آخر . وهذا إبطال لما تعوده الناس من دفع الجبايات والخراج للملوك وقادة القبائل والجيوش . وفي هذا المعنى قوله تعالى : { وما خلفت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات : 56 58 ] ، فجملة { نحن نرزقك } مبيّنة لجملة { ورزق ربك خير وأبقى } [ طه : 131 ] . والمعنى : أنّ رزق ربّك خير وهو مسوق إليك .
والمقصود من هذا الخطاب ابتداءً هو النبي صلى الله عليه وسلم ويشمل أهلَه والمؤمنين لأنّ المعلّل به هذه الجملة مشترك في حكمه جميع المسلمين .
وجملة { والعاقبة للتقوى } عطف على جملة { لا نسألك رزقاً } المعلّل بها أمره بالاصطبار للصلاة ، أي إنا سألناك التقوى والعاقبة .
وحقيقة العاقبة : أنها كل ما يعقب أمراً ويقع في آخره من خير وشر ، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير . فالمعنى : أنّ التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير .
واللام للملك تحقيقاً لإرادة الخير من العاقبة لأنّ شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب ، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة . وقد تكون العاقبة في خير الدنيا أيضاً للتقوى .
وهذه الجملة تذييل لما فيها من معنى العموم ، أي لا تكون العاقبة إلا للتقوى . فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل .