فلما رجع { قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } قال مقاتل وابن كيسان : لا يكون لأحد من بعدي . قال عطاء بن أبي رباح : يريد هب لي ملكاً لا تسلبنيه في آخر عمري ، وتعطيه غيري كما استلبته في ما مضى من عمري . { إنك أنت الوهاب } قيل : سأل ذلك ليكون آية لنبوته ، ودلالة على رسالته ، ومعجزةً . وقيل : سأل ذلك ليكون علماً على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد إليه ملكه ، وزاده فيه . وقال مقاتل بن حيان : كان لسليمان ملكاً ولكنه أراد بقول : ( ( لا ينبغي لأحد من بعدي ) ) تسخير الرياح والطير والشياطين ، بدليل ما بعده .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن عفريتاً من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه ، فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد ، حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان { رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } فرددته خاسئاً " .
( قال : رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ) . .
وأقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان - عليه السلام - أنه لم يرد به أثرة . إنما أراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة . فقد أراد به النوع . أراد به ملكاً ذا خصوصية تميزه من كل ملك آخر يأتي بعده . وذا طبيعة معينة ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس .
قوله : ( قالَ رَبّ اغفرْ لي وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحدٍ مِنْ بَعْدي ) يقول تعالى ذكره : قال سليمان راغبا إلى ربه : ربّ استر عليّ ذنبي الذي أذنبت بيني وبينك ، فلا تعاقبني به وَهَبْ لي مُلكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا يسلبنيه أحدكما سلبنيه قبل هذه الشيطان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( قالَ رَبّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) يقول : ملكا لا أسلَبه كما سُلبتُه .
وكان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله : لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدي إلى : أن لا يكون لأحد من بعدي ، كما قال ابن أحمر :
ما أُمّ غُفْرٍ على دعْجاءَ ذِي عَلَقٍ *** يَنْفي القَراميدَ عنها الأعْصَمُ الوَقِلُ
فِي رأْسِ حَلْقاءَ مِن عَنقاءَ مُشْرِفة *** لا يَنْبَغِي دُوَنها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ
بمعنى : لا يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها .
وقوله : ( إنّكَ أنْتَ الوَهّابُ ) يقول : إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء بيدك خزائن كلّ شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت .
{ قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } لا يتسهل له ولا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي ، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة ، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته كقولك : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال ، على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة ، وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين ووجوب تقديم ما يجعل للدعاء بصدد الإجابة . وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء . { إنك أنت الوهاب } : المعطي ما تشاء لمن تشاء .
ثم إن سليمان عليه السلام استغفر ربه واستوهبه ملكاً . واختلف المتأولون في معنى قوله : { لا ينبغي لأحد من بعدي } فقال جمهور الناس : أراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له وكرامة ، وهذا هو الظاهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسرية من سواري المسجد ، قال : «ثم ذكرت قول أخي سليمان : { رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فأرسلته » ، وقال قتادة وعطاء بن أبي رباح : إنما أراد سليمان : { لا ينبغي لأحد من بعدي } مدة حياتي ، أي لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني . وروي في مثالب الحجاج بن يوسف أنه لما قرأ هذه الآية قال : لقد كان حسوداً ، وهذا من فسق الحجاج . وسليمان عليه السلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصداً براً جائزاً ، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوءة ، وانظر أن قول عليه السلام : { ينبغي } إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصاً لما أوتيه سليمان ، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جرياً منه عليه السلام على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع .
وجملة { قال ربّ اغفر لي } بدل اشتمال من جملة { أنَابَ } لأن الإِنابة تشتمل على ترقب العفو عما عسى أن يكون قد صدر منه مما لا يرضي الله تعالى صدوره من أمثاله .
وإردافه طلب المغفرة باستيهاب مُلْك لا ينبغي لأحدٍ من بعده لأنه توقع من غضب الله أمرين : العقاب في الآخرة ، وسلب النعمة في الدنيا إذ قصّر في شكرها ، وكان سليمان يومئذٍ في مُلْك عظيم فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام مثل : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] . وتنكير { مُلْكاً } للتعظيم .
وارتقى سليمان في تدرج سؤاله إلى أن وصف ملكاً أنه لا ينبغي لأحد من بعده ، أي لا يتأتى لأحد من بعده ، أي لا يعطيه الله أحداً يبتغيه من بعده .
فكنّى ب { لا ينبغي } عن معنى لا يُعطَى لأحد ، أي لا تعطيه أحداً من بعدي .
ففعل : { ينبغِي } مطاوع بغاه ، يقال : بغاه فانبغى له وليس للملْك اختيار وانبغاء وإنما الله هو المعطي والميسّر فإسناد الانبغاء إلى الملك مجاز عقلي ، وحقيقته : انبغاء سببه . وهذا من التأدّي في دعائه إذ لم يقل : لا تعطه أحداً من بعدي .
وسأل الله أن لا يقيم له منازعاً في ملكه وأن يبقى له ذلك الملكُ إلى موته ، فاستجاب فكان سليمان يخشى ظهور عبده ( يربعام بن نباط ) من سبط أفرايم عليه إذ كان أظهر الكيد لسليمان فطلبه سليمان ليقتله فهرب إلى ( شيشق ) فرعون مصر وبقي في مصر إلى وفاة سليمان . فهذا أيضاً مما حمل سليمان أن يسأل الله تثبيت ملكه وأن لا يعطيه أحداً غيره . وكان لسليمان عدوَّان آخران هما ( هدد ) الأدومي و ( رزون ) من أهل صرفة مقيمين في تخوم مملكة إسرائيل فخشي أن يكون الله هيأهما لإِزالة ملكه .
واستعمل { مِن بعدي } في معنى : من دوني ، كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] ، فيكون معنى { لا ينبغِي } أنه لا ينبغي لأحد غيري ، أي في وقت حياتي فهذا دعاء بأن لا يُسلط أحد على ملكه مدة حياته .
وعلى هذا التفسير لا يكون في سؤاله هذا الملك شيء من الاهتمام بأن لا ينال غيره مثل ما ناله هو فلا يرد على ذلك أن مثل هذا يعدّ من الحسد .
ويجوز أن يبقى { مِن بعدي } على ظاهره ، أي بعد حياتي . فمعنى { لا يَنبغِي } : لا ينبغي مثله لأحد بعد وفاتي . وتأويل ذلك أنه قصد من سؤاله الإِشفاق من أن يلِي مثل ذلك الملك من ليس له من النُبوءة والحكمة والعصمة ما يضطلع به لأعباء ملك مثل ذلك الملك ومن ليس له من النفوذ على أمته ما لسليمان على أمته فلا يلبث أن يحسد على الملك فينجم في الأمة منازعون للمَلِك على مُلْكه ، فينتفِي أيضاً على هذا التأويل إيهام أنه سأل ذلك غيرة على نفسه أن يعطَى أحد غيرُه مثلَ ملكه ( مما تشمّ منه رائحة الحسد ) .
وقد تضمنت دعوته شيئين : هما أن يعطى ملكاً عظيماً ، وأن لا يُعطَى غيرُه مثلَه في عظمته . وقد حكى الله دعاء سليمان وهو سرّ بينه وبين ربه إشعاراً بأنه ألهمه إياه ، وأنه استجاب له دعوته تعريفاً برضاه عنه وبأنه جعل استجابته مكرمة توبتِه . ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان فإن ملك سليمان عمّ التصرف في الجن وتسخير الريح والطير ، ومجموعُ ذلك لم يحصل لأحد من بعده .
وفي « الصحيح » عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن عفريتاً من الجن تفلَّتَ البارحةَ ليقطع عليَّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردتُ أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلُّكُم فذكرتُ دعوة أخي سليمان : « رب هَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لأحَدٍ مِنْ بَعْدي فرددته خاسِئاً » .
وجملة { إنَّك أنتَ الوهابُ } علة للسؤال كله وتمهيد للإِجابة ، فقامت ( إنّ ) مقام حرف التفريع ودلت صيغة المبالغة في { الوَهَّابُ } على أنه تعالى يهب الكثير والعظيم لأن المبالغة تفيد شدة الكمية أو شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء ، فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة لما يرتب عليه من درجات الآخرة وإعطاء مثل هذا الملك هو هبة عظيمة . و { أنْتَ } ضميرُ فصل ، وأفاد الفصل به قصراً فصار المعنى : أنت القوي الموهبة لا غيرك ، لأن الله يَهَب ما لا يملك غيره أن يهبه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما رجع سليمان إلى ملكه وسلطانه {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}.
فوهب الله عز وجل له من الملك ما لم يكن له ولا لأبيه داود عليهما السلام، فزاده الرياح والشياطين بعد ذلك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"قالَ رَبّ اغفرْ لي وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحدٍ مِنْ بَعْدي" يقول تعالى ذكره: قال سليمان راغبا إلى ربه: ربّ استر عليّ ذنبي الذي أذنبت بيني وبينك، فلا تعاقبني به، "وَهَبْ لي مُلكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي": لا يسلبنيه أحد... وكان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله: لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدي إلى: أن لا يكون لأحد من بعدي... وقوله: "إنّكَ أنْتَ الوَهّابُ "يقول: إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء بيدك خزائن كلّ شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل سؤاله المغفرة عند سؤاله الملك أمرا في ما بينه وبين ربه؛ لأن الملك مما يتلذذ به وفيه هوى النفس، ثم يحتمل سؤاله المغفرة نفسها عما يكون منه من التقصير في ذلك، أو يكون سؤاله المغفرة لا نفس المغفرة، ثم يحتمل سؤال المغفرة أنه أراد أن يستسلم له الخلق في الإجابة إلى ما يدعو إليه من وحدانية الله تعالى وجعل العبادة له لما رأى أن إجابة الناس وإقبالهم إلى ما عنده من السعة والغنى أسرع، ولقوله أقبل ورغبتهم فيه أكثر، وإذا كان ما ذكرنا، وهو متعارف في ما بينهم، فكان في سؤاله الملك له نجاة الخلق كلهم بما يستسلمون له، ويجيبونه إلى ما يدعوهم إليه، فينجون نجاة لا هلاك بعدها.
{وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} يحتمل وجوها:
الثاني: أنه سأل ربه ملكا لا يكون لأحد ما بقي هو حيا، فيكون له آية لنبوته، على أنه لنبوته على ما ذكرنا لو كان مثله لأحد منهم لم يكن له في ذلك آية لنبوته.
والثالث: أنه سأله ملكا ليبقى له الذكر والثناء الحسن...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فان قيل: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي الشح والضن لأنه لم يرض بأن سأل الملك حتى اضاف إلى ذلك ألا يكون لأحد بعده مثله؟! قلنا قد ثبت أن الأنبياء لا يجوز أن يسألوا بحضرة قومهم ما لم يأذن الله لهم في ذلك، فعلى هذا لم لا يجوز أن يكون الله تعالى أعلم سليمان أنه إن سأل ملكا لا يكون لغيره كان لطفا له في الدين وأعلمه أن غيره لو سأل ذلك لم يجب إليه؛ لأنه يكون مفسدة لغيره ولا صلاح له فيه، وقيل: إنه لا يمتنع أن يسأل النبي مثل هذه المسألة من غير إذن إذا لم يكن بمحضر من قومه بعد أن يكون الشرط فيه مقدرا.
"لا ينبغي لاحد من بعدي" معناه لا ينبغي لأحد غيري ممن أنا مبعوث إليه، ولم يرد من بعدي إلى يوم القيامة من النبيين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قَدَّم الاستغفار على استيهاب الملك جرياً على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور دنياهم
{لاَّ يَنبَغِي} لا يتسهل ولا يكون.
{مِن بَعْدِي} من دوني، فإن قلت: أما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطي الله ما لا يعطيه غيره؟ قلت: كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوّة ووارثاً لهما، فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب ألفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حدّ الإعجاز، ليكون ذلك دليلاً على نبوّته قاهراً للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله: {لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مّن بَعْدِى}، ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إياه، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة الذي علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده، أو أراد أن يقول ملكاً عظيماً فقال: {لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مّن بَعْدِى}، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سليمان عليه السلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصداً براً جائزاً؛ لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد، لا سيما بحسب المكانة والنبوءة.
{ينبغي} إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد...
اعلم أن الذين حملوا الكلام المتقدم على صدور الزلة منه تمسكوا بهذه الآية، فإنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة، ويمكن أن يجاب عنه بأن الإنسان لا ينفك البتة عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ ولأنهم أبدا في مقام هضم النفس، وإظهار الذلة والخضوع، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» ولا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى.
{وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى}...أيضا الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا؛ لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم توسل به إلى طلب المملكة، ونوح عليه السلام هكذا فعل أيضا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين} وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك}...
فإن قيل قوله عليه السلام: {ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى} مشعر بالحسد، والجواب عنه من وجوه:
الوجه الثاني: في الجواب أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر، فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره، وذلك الذي سأله بقوله: {ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى} أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري.
الوجه الثالث: في الجواب أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال عدم القدرة عليها، فكأنه قال: يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية، حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل.
الوجه الخامس: أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة، فقال سليمان يا رب العزة أعطني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها، فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها، وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبه وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تَفَلَّت عليّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قال روح: فرده خاسئا وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فسر الإنابة ليعلم أنه تعالى فتنه مع أنه عبد عظيم المنزلة مجاب الدعوة بقوله جواباً لمن سأل عنها: {قال ربّ} أي أيها المحسن إلي.
{اغفر لي} أي الأمر الذي كانت الإنابة بسببه.
{وهب لي} أي بخصوصي {ملكاً لا ينبغي} أي لا يوجد طلبه وجوداً تحصل معه المطاوعة والتسهل.
{لأحد} في زمان ما طال أو قصر سواء كان كاملاً في الصورة والمعنى أو جسداً خالياً عن العز كما حصلت به الفتنة من قبل، وبعّض الزمان بذكر الجار فقال: {من بعدي} حتى أتمكن من كل ما أريد من التقرب إليك وجهاد من عاداك، ويكون ذلك أمارة لي على قبول توبتي ولا تحصل لي فتنة بإلقاء شيء على مكان حكمي ولا غيره، وهذا يشعر بأن الفتنة كانت في الملك، وكذا ذكر الإلقاء على الكرسي مضافاً إليه من غير أن ينسب إليه هو صلى الله عليه وسلم شيء، وهو مناسب لعقر الخيل الذي هو إذهاب ما به العز، وبهذا التقدير علم أنه لو ذكر الظرف من غير حرف لأوهم تقيد الدعوة بملك يستغرق الزمان الذي بعده، ثم علل ما طلبه من الإعطاء والمنع بقوله على سبيل التأكيد إسقاطاً لما غلب على النفوس من رؤية الأسباب:
{إنك أنت} أي وحدك {الوهاب} أي العظيم المواهب مع التكرار كلما أردت، فتعطي بسبب وبغير سبب من تشاء وتمنع من تشاء...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليلٌ للدُّعاءِ بالمغفرةِ والهبةِ معاً لا بالأخيرة فقط فإنَّ المغفرةَ أيضاً من أحكامِ وصفِ الوهَّابيةِ فقط...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إردافه طلب المغفرة باستيهاب مُلْك لا ينبغي لأحدٍ من بعده؛ لأنه توقع من غضب الله أمرين: العقاب في الآخرة، وسلب النعمة في الدنيا إذ قصّر في شكرها، وكان سليمان يومئذٍ في مُلْك عظيم فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام، وتنكير {مُلْكاً} للتعظيم، وارتقى سليمان في تدرج سؤاله إلى أن وصف ملكاً أنه لا ينبغي لأحد من بعده، أي لا يتأتى لأحد من بعده، أي لا يعطيه الله أحداً يبتغيه من بعده، فكنّى ب {لا ينبغي} عن معنى لا يُعطَى لأحد، أي لا تعطيه أحداً من بعدي، ففعل: {ينبغِي} مطاوع بغاه، يقال: بغاه فانبغى له وليس للملْك اختيار وانبغاء، وإنما الله هو المعطي والميسّر فإسناد الانبغاء إلى الملك مجاز عقلي، وحقيقته: انبغاء سببه، وهذا من التأدّي في دعائه إذ لم يقل: لا تعطه أحداً من بعدي، ويجوز أن يبقى {مِن بعدي} على ظاهره، أي بعد حياتي. فمعنى {لا يَنبغِي}: لا ينبغي مثله لأحد بعد وفاتي، وتأويل ذلك أنه قصد من سؤاله الإِشفاق من أن يلِي مثل ذلك الملك من ليس له من النُبوءة والحكمة والعصمة ما يضطلع به لأعباء ملك مثل ذلك الملك، ومن ليس له من النفوذ على أمته ما لسليمان على أمته فلا يلبث أن يحسد على الملك فينجم في الأمة منازعون للمَلِك على مُلْكه، فينتفِي أيضاً على هذا التأويل إيهام أنه سأل ذلك غيرة على نفسه أن يعطَى أحد غيرُه مثلَ ملكه (مما تشمّ منه رائحة الحسد)...
وقد تضمنت دعوته شيئين: هما أن يعطى ملكاً عظيماً، وأن لا يُعطَى غيرُه مثلَه في عظمته، وقد حكى الله دعاء سليمان وهو سرّ بينه وبين ربه إشعاراً بأنه ألهمه إياه، وأنه استجاب له دعوته تعريفاً برضاه عنه وبأنه جعل استجابته مكرمة توبتِه. ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان فإن ملك سليمان عمّ التصرف في الجن وتسخير الريح والطير، ومجموعُ ذلك لم يحصل لأحد من بعده...
ودلت صيغة المبالغة في {الوَهَّابُ} على أنه تعالى يهب الكثير والعظيم؛ لأن المبالغة تفيد شدة الكمية أو شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء، فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة لما يرتب عليه من درجات الآخرة، وإعطاء مثل هذا الملك هو هبة عظيمة...
{أنْتَ} ضميرُ فصل، وأفاد الفصل به قصراً فصار المعنى: أنت القوي الموهبة لا غيرك، لأن الله يَهَب ما لا يملك غيره أن يهبه...