البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (35)

{ قال رب اغفر لي } : هذا أدب الأنبياء والصالحين من طلب المغفرة من الله هضماً للنفس وإظهاراً للذلة والخشوع وطلباً للترقي في المقامات ، وفي الحديث : " إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " ، والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه ، فيترتب عليه أمر دنياه ، كقول نوح في ما حكى الله عنه : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً } الآية .

والظاهر أن طلب الملك كان بعد هذه المحنة .

وذكر المفسرون أنه أقام في ملكه عشرين سنة قبل هذا الابتلاء ، وأقام بعدها عشرين سنة ، فيمكن أنه كان في ملك قبل المحنة ، ثم سأل بعدها ملكاً مقيداً بالوصف الذي بعده ، وهو كونه لا ينبغي لأحد من بعده ، واختلفوا في هذا القيد ، فقال عطاء بن أبي رباح وقتادة : إلى مدة حياتي ، لا أسلبه ويصير إلى غيري .

وقال ابن عطية : إنما قصد بذلك قصداً جائزاً ، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوة .

وانظر إلى قوله : { لا ينبغي } ، إنما هي لفظة محتملة ليست تقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد . انتهى .

وقال الزمخشري : كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما ؛ فأراد أن يطلب من ربه معجزة ، فطلب على حسب إلفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ، ليكون ذلك دليلاً على نبوته ، قاهراً للمبعوث إليهم ، ولن يكون معجزة حتى تخرق العادات ، فذلك معنى قوله : { لا ينبغي لأحد من بعدي } .

وقيل : كان ملكاً عظيماً ، فخاف أن يعطي مثله أحد ، فلا يحافظ على حدود الله فيه ، كما قالت الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك } وقيل : ملكاً لا أسلبه ، ولا يقوم فيه غيري مقامي .

ويجوز أن يقال : علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين ، وعلم أنه لا يطلع بأحبابه غيره ، وأوجبت الحكمة استيهابه ، فأمره أن يستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أن لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده .

أو أراد أن يقول : ملكاً عظيماً ، فقال : { لا ينبغي لأحد من بعدي } ، ولم يقصد بذلك إلا عظمة الملك وسعته ، كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده . انتهى .

ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه ، أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال : { إنك إنت الوهاب } : أي الكثير الهبات ، لا يتعاظم عنده هبة .