اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (35)

قوله : { قَالَ رَبِّ اغفر لِي } تمسك به من حَمَلَ الكلام المتقدم على صدور الزَّلَّة لأنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب : بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأنه أبداً في مقام هَضْم النفس وإظهار الذِّلَّة والخضوع كما قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : «إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً » مع أنه غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

قوله : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مُهِمّ الدين على مُهِمّ الدينا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم طلب المملكة بعده ، ثم دلت الآية أيضاً على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ، ثم توسل به إلى طلب المملكة ونوح - عليه ( الصلاة و ) السلام- قال : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح10-12 ] وقال لمحمد عليه ( الصلاة و ) السلام : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ] .

فإن قيل : قول سليمان - عليه الصلاة والسلام- : «هَبْ لِي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي » مشعر بالحسد .

فالجواب : أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معناه هو : أن يعطيه الله ملكاً لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه ألبتة ، وأما المنكرون فأجابوا بوجوه :

الأول : أن المُلْكَ هو القدرة فكان المراد أقدرنِي على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نُبُوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا قوله تعالى عقيبه : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته .

الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام- لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل عنّي إلى غيري .

الثالث : أنَّ الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حالَ عَدَمِ القدرة فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكةً فائقةً على ممالك البشر بالكلية حتى أحْتَرِزَ عنها مع القدرة عليها ليصير ( ثوابي ) أكمل وأفضلَ .

الرابع : سأل ذلك ليكون علماً على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد عليه مُلْكَهُ وزاده فيه .