قوله تعالى : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } ، يعني : ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن ، وهذا من المقلوب نظيره قوله تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } [ آل عمران-175 ] ، أي : يخوفهم بأوليائه . وقيل : نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه ، كما يقول القائل : فتنتني الدنيا ، نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة . { فمن تبعني فإنه مني } ، أي : من أهل ديني ، { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ، قال السدي : معناه : ومن عصاني ثم تاب . وقال مقاتل بن حيان : ومن عصاني فيما دون الشرك . وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك .
يدعو إبراهيم دعوته هذه لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بهذه الأصنام من الناس في جيله وفي الأجيال التي قبله ؛ ومن فتنوا بها ومن افتتنوا وهم خلق كثير :
( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) . .
ثم يتابع الدعاء . . فأما من تبع طريقي فلم يفتتن بها فهو مني ، ينتسب إلى ويلتقي معي في الآصرة الكبرى ، آصرة العقيدة :
وأما من عصاني منهم فأفوض أمره إليك :
( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) . .
وفي هذا تبدو سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم ؛ فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه ، ولا يستعجل لهم العذاب ؛ بل لا يذكر العذاب ، إنما يكلهم إلى غفران الله ورحمته . ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة ؛ وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية ؛ فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم !
وقوله : رَبّ إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يقول : يا ربّ إن الأصنام أضللن : يقول : أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهُدى وسبيل الحقّ حتى عبدوهنّ ، وكفروا بك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيدُ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يعني الأوثان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ قال : الأصنام .
وقوله : فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي يقول : فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان ، فإنه مني : يقول : فإنه مستنّ بسنّتِي ، وعامل بمثل عملي . وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه ، وأشرك بك ، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك ، رحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِني وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم ، لا والله ما كانوا طَعّانين ولا لَعّانين وكان يقال : إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان ، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلام : إنْ تُعَذّبْهُمْ فَإنّهُمْ عِبادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سَوادة ، حدّثه عن عبد الرحمن بن جُبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم : رَبّ إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وقال عيسى : إنْ تُعَذّبْهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ فرفع يديه ثم قال : اللّهُمّ أُمّتِي ، اللّهُمّ أُمّتِي وبكى . فقال الله تعالى : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يُبكيه ؟ فأتاه جبرئيل فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال . قال : فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءُك .
{ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية كقوله تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا } . { فمن تبعني } على ديني . { فإنه منّي } أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين . { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة . وفيه دليل على أن كل ذنب فللّه أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره .
ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيراً من الناس - تجوز - إذ كانت عرضة الإضلال ، والأسباب المنصوبة للغيّ ، وعليها تنشأ الأغيار ، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه ، وقيل : أراد الأصنام هنا الدنانير والدراهم .
وقوله : { ومن عصاني } ظاهره بالكفر ، بمعادلة قوله : { فمن تبعني فإنه مني } ، وإذا كان ذلك كذلك فقوله : { فإنك غفور رحيم } معناه : بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا ، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر ، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب - صلى الله عليه وسلم - قال قتادة : اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم ، والله ما كانوا طعانين ولا لعانين ، وكذلك قال نبي الله عيسى { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }{[2]} [ المائدة : 118 ] وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته ، فبشر فيهم{[3]} وكان إبراهيم التيمي يقول : من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام ؟ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.