قوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } . قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره ، يعني جنته ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقالوا : كيف بقي الوزر ؟ فقال : ثبت الأجر للغلام ، وبقي الوزر على والده ، وقوله { وآتوا } خطاب للأولياء والأوصياء ، واليتامى : جمع يتيم ، واليتيم : اسم لصغير لا أب له ولا جد وإنما يدفع المال إليهم بعد البلوغ ، وسماهم يتامى ها هنا على معنى انهم كانوا يتامى .
قوله تعالى { ولا تتبدلوا } . لا تستبدلوا .
قوله تعالى : { الخبيث بالطيب } . أي : مالهم الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم ، واختلفوا في هذا التبديل ، قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي : كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الردئ فربما كان أحد يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول : درهم بدرهم ، فنهوا عن ذلك وقيل : كان أهل الجاهلية لا يورثون السناء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث ، فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي يأخذه خبيث ، وقال مجاهد : لا تتعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال .
قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } . أي : مع أموالكم ، كقوله تعالى { من أنصاري إلى الله } ، أي : مع الله .
من هذا الافتتاح القوي المؤثر ، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة ، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير ، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته : من التكافل في الأسرة والجماعة ، والرعاية لحقوق الضعاف فيها ، والصيانة لحق المرأة وكرامتها ، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها ، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع . .
ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد . وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعا في أموالهن . أما السفهاء الذي يخشى من اتلافهم للمال ، إذا هم تسلموه ، فلا يعطى لهم المال ، لأنه في حقيقته مال الجماعة ، ولها فيه قيام ومصلحة ، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه ، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة .
وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم . إنه كان حوبا كبيرا . وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا . ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ، وارزقوهم فيها واكسوهم ، وقولوا لهم قولا معروفا . وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيبا . .
وتشي هذه التوصيات المشددة - كما قلنا - بما كان واقعا في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة . والأيتام والنساء بصفة خاصة . . هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم - المقتطع أصلا من المجتمع الجاهلي - حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها ، وينشىء في الجماعة المسلمة تصورات جديدة ، ومشاعر جديدة ، وعرفا جديدا ، وملامح جديدة .
( وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، إنه كان حوبا كبيرا ) . .
أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم ، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد . كأن تأخذوا أرضهم الجيدة ، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة ، أو ماشيتهم ، أو أسهمهم ، أو نقودهم - وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة - أو أي نوع من أنواع المال ، فيه الجيد وفيه الرديء . . وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم ، كلها أو بعضها . . إن ذلك كله كان ذنبا كبيرا . والله يحذركم من هذا الذنب الكبير . .
فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة . فالخطاب يشي بأنه كان موجها إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور . وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية . . وفي كل جاهلية يقع مثل هذا . ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى . وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق ،
وشتى الحيل ، من أكثر الأوصياء ، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية ، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر . فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة ، ولا الرقابة الظاهرية . . كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد . . التقوى . . فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر ، فتصبح للتشريع قيمته وأثره . كما وقع بعد نزول هذه الآية ، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم ، ويعزلوا طعامه عن طعامهم ، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم ، الذي حذرهم الله منه وهو يقول : ( إنه كان حوبا كبيرا ) . .
إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات . ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات . . وهذه التقوى لا تجيش - تجاه التشريعات والتنظيمات - إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر ، الرقيبة على الضمائر . . عندئذ يحس الفرد - وهو يهم بانتهاك حرمة القانون - أنه يخون الله ، ويعصي أمره ، ويصادم إرادته ؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله . . وعندئذ تتزلزل أقدامه ، وترتجف مفاصله ، وتجيش تقواه . .
إن الله أعلم بعباده ، وأعرف بفطرتهم ، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي - وهو خلقهم - ومن ثم جعل التشريع تشريعه ، والقانون قانونه ، والنظام نظامه ، والمنهج منهجه ، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته . . وقد علم - سبحانه - أنه لا يطاع أبدا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب ، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب . وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد ، تحت تأثير البطش والإرهاب ، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة ، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة ، وكلما واتتهم الحيلة . مع شعورهم دائما بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض . .
{ وَآتُواْ الْيَتَامَىَ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىَ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } .
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره أوصياء اليتامى ، يقول لهم : وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى أموالهم ، إذا هم بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد . { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } يقول : ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : الحلال بالحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : الحرام مكان الحلال .
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث بالطيب الذي نهوا عنه ومعناه ، فقال بعضهم : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من ماله والرفيع منه ، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس ، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : لا تعط زيفا وتأخذ جيدا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السديّ ، وعن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ومعمر ، عن الزهري ، قالوا : يعطي مهزولاً ويأخذ سمينا .
وبه عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك ، قال : لا تعط فاسدا وتأخذ جيدا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة . ويأخذ الدرهم الجيد ، ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قدّر لك من الحلال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدّر لك .
وبه عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح مثله .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ، ولا يورّثون الصغار يأخذه الأكبر . وقرأ : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : إذا لم يكن لهم شيء ، { والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ } لا يورثوهم ، قال ، فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي أخذه خبيث .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : تأويل ذلك : ولا تتبدّلوا أموال أيتامكم أيها الأوصياء الحرام عليكم الخبيث لكم ، فتأخذوا رفائعها وخيارها وجيادها «بالطيب الحلال لكم من أموالكم » { وتجعلوا } الرديء الخسيس بدلاً منه . وذلك أن تَبَدّل الشيء بالشيء في كلام العرب أخذ شيء مكان آخر غيره ، يعطيه المأخوذ منه ، أو يجعله مكان الذي أخذ . فإذا كان ذلك معنى التبديل والاستبدال ، فمعلوم أن الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك : هو أخذ أكبر ولد الميت جميع مال ميته ووالده دون صغارهم إلى ماله ، قول لا معنى له ، لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم ، فلم يستبدل مما أخذ شيئا . فما التبدّل الذي قال جلّ ثناؤه : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } ولم يبدّل الاَخذ مكان المأخوذ بدلاً ؟ وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجيء الحلال ، فإنهما أيضا إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال : إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها ، ففساده نظير فساد قول ابن زيد ، لأن من استعجل الحرام فأكله ، ثم آتاه الله رزقه الحلال فلم يبدّل شيئا مكان شيء ، وإن كانا أرادا بذلك أن الله جلّ ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجيء الحلال ، فيكون أكلهم ذلك سببا لحرمان الطيب منه ، فذلك وجه معروف ، ومذهب معقول يحتمله التأويل ، غير أن الأشبه في ذلك بتأويل الاَية ما قلنا ، لأن ذلك هو الأظهر من معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها ، فلا يكون ذلك من جنس حكم أوّل الاَية ، فأخرجها من أن يكون من غير جنسه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ } .
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولا تخلطوا أموالهم يعني : أموال اليتامى بأموالكم فتأكلوها مع أموالكم . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ } يقول : لا تأكلوا أموالكم وأموالهم ، تخلطوها فتأكلوها جميعا .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الاَية في أموال اليتامى ، كرهوا أن يخالطوهم ، وجعل وليّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فاخْوَانُكُمْ } قال : فخالطوهم واتّقوا .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } .
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ( بقوله ) : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } إن أكلكم أموال أيتامكم مع أموالكم حوب كبير . والهاء في قوله «إنّهُ » دالة على اسم الفعل ، أعني الأكل . وأما الحُوب : فإنه الإثم ، يقال منه : حاب الرجل يحوب حَوْبا وَحُوبا وحيابة ، ويقال منه : قد تحوّب الرجل من كذا ، إذا تأثم منه . ومنه قول أمية بن الأسكر الليثي :
وإنّ مُهاجِرَيْنِ تَكَنّفاهُ *** غَدَاتَئِذٍ لقَدْ خَطِئا وَحابا
ومنه قيل : نزلنا بَحوْبة من الأرض وبحيبة من الأرض : إذا نزلوا بموضع سَوء منها . والكبير : العظيم ، فمعنى ذلك : إن أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم ، إثم عند الله عظيم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { حُوبا كَبِيرا } قال : إثما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } قال : إثما عظيما .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { كانَ حُوبا } أما حوبا : فإثما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { حُوبا } قال : إثما .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } يقول : ظلما كبيرا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد ، يقول في قوله : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } قال : ذنبا كبيرا ، وهي لأهل الإسلام .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : { حُوبا كَبِيرا } قال : إثما والله عظيما .
وآتوا اليتامى أموالهم أي إذا بلغوا ، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ، من اليتم وهو الانفراد . ومنه الدرة اليتيمة ، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات . ثم جمع يتمي على يتامى كأسري وأسارى ، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار ، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ . وروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر ، حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول نهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه قال ؛ وآتوهم إذا بلغوا . ويؤيد الأول ما روي : أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت . فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير . { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها . وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها ، وهذا تبديل وليس بتبدل . { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ، أي لا تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى : { فليأكل بالمعروف } { إنه } الضمير للأكل . { كان حوبا كبيرا } ذنبا عظيما . وقرئ حوبا وهو مصدر حاب { حوبا } وحابا كقال قولا وقالا .
{ اليتامى } : جمع يتيم ويتيمة ، واليُتْمُ في كلام العرب فقد الأب قبل البلوغ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يُتمَ بعد بلوغ »{[3838]} وهو في البهيمة فقد الأم في حال الصغر ، وحكى اليتيم في الإنسان من جهة الأم ، وقال ابن زيد : هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير ، فقيل لهم : ورثوهم أموالهم ، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالاً طيباً وتأخذوا الكل ظلماً حراماً خبيثاً ، فيجيء فعلكم ذلك تبدلاً ، وقالت طائفة : هذه المخاطبة هي لأوصياء الأيتام ، والمعنى : إذا بلغوا وأونس منهم الرشد : وسماهم يتامى وهم قد بلغوا ، استصحاباً للحالة الأولى التي قد ثبتت لهم من اليتم ، { ولا تتبدلوا } قيل : المراد ما كان بعضهم يفعل من أن يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف من ماله ، قاله سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك ، وقيل : المراد بذلك لا تأكلوا أموالهم خبيثاً ، وتدعوا أموالكم طيباً ، وقيل : معناه لا تتعجلوا أكل «الخبث » من أموالهم ، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله ، قاله مجاهد وأبو صالح ، و «الخبيث » و «الطيب » : إنما هو هنا بالتحليل والتحريم ، وروي عن ابن محيصن أنه قرأ - «ولا تبدلوا » - بإدغام التاء في التاء وجاز في ذلك الجمع بين ساكنين ، لأن أحدهما حرف مد ولين يشبه الحركة ، وقوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } استوى الأيتام في النهي عن أكل «أموالهم » كانوا ورثة ممنوعين من الميراث ومحجورين ، والآية نص في [ النهي عن ] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه ، وروي عن مجاهد أنه قال : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله : { وإن تخالطوهم فإخوانكم }{[3839]} وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة ، وقال ابن فورك عن الحسن : إنه تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة ، وقالت طائفة من المتأخرين { إلى } بمعنى مع ، وهذا غير جيد ، وروي عن مجاهد أن معنى الآية : ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تقريب للمعنى ، لا أنه أراد أن الحرف بمعنى الآخر ، وقال الحذاق : { إلى } هي على بابها وهي تتضمن الإضافة ، التقدير : «لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل » ، كما قال تعالى { من أنصاري إلى الله }{[3840]} أي من ينضاف إلى الله في نصرتي والضمير في { إنه } عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل الظاهر ، والحوب : الإثم ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما ، تقول : حاب الرجل يحوب حُوباً وحاباً وحَوْباً إذا أثم ، قال أمية بن الأسكر{[3841]} : [ الوافر ]
وإنَّ مُهَاجِريْنِ تَكَنَّفَاهُ . . . غَدَاتئذٍ لَقَدْ خَطِئا وَخَابَا
وقرأ الحسن : «حَوبا » بفتح الحاء ، وهي لغة بني تميم ، وقيل : هو بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم ، وتحوب الرجل إذا ألقى الحوب عن نفسه ، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج ، فإن هذه الأربعة تفعل كله لأن تفعل معناه الدخول في الشيء كتعبد وتكسب وما أشبهه ويلحق بهذه الأربعة تفكهون ، في قوله تعالى : { لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون }{[3842]} أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم ، بدليل قوله بعد ذلك { إنّا لمغرمون بل نحن محرومون } [ الواقعة : 66 و 67 ] أي يقولون ذلك ، وقوله : { كبيراً } نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر .
وقوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } قال أبو عبيدة{[3843]} : { خفتم } هنا بمعنى أيقنتم ، واستشهد بقول الشاعر : [ دريد بن الصمة ] : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بألفَي مُدَجَّجٍ{[3844]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما قاله غير صحيح ، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه وإنما هو من أفعال التوقع ، إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين ، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا ، و { تقسطوا } معناه تعدلوا ، يقال : أقسط الرجل إذا عدل ، وقسط إذا جار ، وقرأ ابن وثاب والنخعي ، - «ألا تَقْسطوا » بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة - لا - كأنه قال : { وإن خفتم } أن تجوروا ، واختلف في تأويل الآية ، فقالت عائشة رضي الله عنها ، نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم ، فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن ، فقيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف ألا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يكايسن{[3845]} في حقوقهن ، وقاله ربيعة ، وقال عكرمة : نزلت في قريش ، وذلك أن الرجل منهم كان يتزوج العشر وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مالَ على مالِ يتيمه فتزوج منه ، فقيل لهم : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا ، وقال سعيد بن جبير والسدي وقتادة وابن عباس : إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ، ولا تتحرج في العدل بين النساء ، كانوا يتزوجون العشر وأكثر ، فنزلت الآية في ذلك ، أي كما تخافون «ألا تقسطوا في اليتامى » فكذلك فتحرجوا في النساء ، «وانكحوا » على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه ، وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنى وزجر عنه ، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك فتحرجوا من الزنى ، وانكحوا على ما حد لكم ، قال الحسن وأبو مالك وسعيد بن جبير : { ما طاب } ، معناه ما حل .
قال القاضي أبو محمد : لأن المحرمات من النساء كثير . وقرأ ابن أبي عبلة ، و «من طاب » على ذكر من يعقل ، وحكى بعض الناس أن { ما } في هذه الآية ظرفية ، أي ما دمتم تستحسنون النكاح .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المنزع ضعف وقال { ما } ولم يقل - من - لأنه لم يرد تعيين من يعقل ، وإنما أراد النوع الذي هو الطيب من جهة التحليل ، فكأنه قال : «فانكحوا الطيب » وهذا الأمر بالنكاح هو ندب لقوم وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه ، قال عليه السلام :< من استطاع منكم الباءة فليتزوج{[3846]} و{ مثنى وثلاث ورباع> : موضعها من الإعراب نصب على البدل من { ما طاب } ، وهي نكرات لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قاله أبو علي . وقال غيره : هي معدولة في اللفظ وفي المعنى ، وأيضاً فإنها معدولة وجمع ، وأيضاً فإنها معدولة مؤنثة ، قال الطبري : هي معارف لأنها لا تدخلها الألف واللام ، وخطأ الزجاج هذا القول ، وهي معدولة عن اثنين ، وثلاثة ، وأربعة ، إلا أنها مضمنة تكرار العدد إلى غاية المعدود ، وأنشد الزجاج لشاعر [ ساعدة بن جؤيّة ]{[3847]} : [ الطويل ]
ولكنّما أهلي بوادٍ أنيسُهُ . . . ذِئابٌ تبغّي الناسَ مثْنى ومَوْحَد
فإنما معناه اثنين اثنين ، وواحد واحداً ، وكذلك قولك : جاء الرجال مثنى وثلاث ، فإنما معناه : اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وربع » ساقطة الألف ، وتلك لغة مقصدها التخفيف كما قال الشاعر : على لسان الضب{[3848]} : [ المجتث ]
لا أشتهي أن أردّا . . . إلا عراداً عردّا
وصليانا بردا . . . . . . . . وعنكثا ملتبدا . ***
يريد بارداً . وقوله تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } قال الضحاك وغيره : المعنى ألا تعدلوا في الميل والمحبة والجماع والعشرة بين الأربع أو الثلاث أو الاثنتين ، ويتوجه على قول من قال : إنها نزلت فيمن يخاف أن ينفق مال اليتامى في نكاحاته ، أن يكون المعنى : ألا تعدلوا في نكاح الأربع والثلاث حتى تنفقوا فيه أموال يتاماكم ، أي فتزوجوا واحدة بأموالكم ، أو تسرّوا منها ، ونصب واحدة بإضمار فعل تقديره : فانكحوا واحدة . وقرأ عبد الرحمن بن هرمز والحسن : «فواحدةٌ » بالرفع على الابتداء ، وتقدير الخبر : فواحدة كافية ، أو ما أشبهه ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو .
و{ ما ملكت أيمانكم } يريد به الإماء ، والمعنى : إن خاف ألا يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه ، وأسند الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها ، ألا ترى أنها المنفقة ، كما قال عليه السلام : «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه »{[3849]} وهي المعاهدة المبايعة ، وبها سميت الأليَّةُ{[3850]} يميناً ، وهي المتلقية لكتاب النجاة ولرايات المجد{[3851]} ، وقد نهى عليه السلام عن استعمالها في الاستنجاء وأمر المرء بالأكل بها .