لما وَصَّى في الآية السابقة بالأرحام وصَّى في هذه الآية بالأيتام ؛ لأنَّهم قد صاروا بحيثُ لا كافِلَ لهم ولا مُشْفِقَ فيهم - أسوأ حالاً ممن له رحم ، فإنه عطفه{[6406]} عليه ، وهذا خطاب الأولياء والأوصياء .
قالوا : إن اليتيم{[6407]} من لا أب له ولا جد ، والإيتاء : الإعطاء قال أبو زيد{[6408]} : أتَوْتُ الرجلَ آتُوه إتَاوَةً ، وهي الرّشوة .
وقال الزمخشريُّ{[6409]} : الأيتام الذين مات آباؤهم ، وَاليُتْمُ : الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة ، والدُّرة اليتيمة .
وقيل : [ اليتيم ] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات .
قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنَّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ ، فإذا صار مستعيناً بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله ، زال عنه هذا الاسم ؛ وكانت قريش تقول لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَتِيم أبِي طَالِبٍ ، إمَّا على القياس ، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له .
وأما على قوله عليه السلام : " لاَ يتم بَعْدَ بُلُوغ " {[6410]} فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة .
وروى أبو بكر الرازي{[6411]} في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه ؟ فكتب إليه : إذا أونِسَ منه الرشد انقطع يتمه .
وفي بعض الروايات : إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعدُ [ فأخبر ابن عباس ]{[6412]} أن اسم اليتيم يلزمه بعد البلوغ ، إذا لم يؤنس منه الرُّشْدُ ، ثم قال أبو بكر : " واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها " .
قال عليه السلام : " تستأمر اليتيمة في نفسها " {[6413]} وهي لا تستأمر إلاَّ وهي بالغة .
إنَّ الْقُبٌورَ تَنْكِحُ الأيَامى *** النِّسْوَةَ والأرَامِلَ الْيَتَامَى{[6414]}
فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير .
فإن قيل : كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى ؟ واليتيم فعيل : فيجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى ، وجريح وجرحى ؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فيه وجهان{[6415]} .
أحدهما : أن يقال : إن جمع اليتيم ، يَتْامَى ، يتمى ، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارَى .
والثاني :أن نقول : جمع اليتيم يتائم ؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو " صاحب " و " فارس " ثم تنقلب " اليتائم " " يتامى " .
قال القفّال{[6416]} : " ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى ، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف " .
فإن قيل : إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيماً{[6417]} لا يجوز دفع ماله إليه ، وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيماً ، فكيف قال : { وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } .
الأول : أن يقال : المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا ، وسمَّاهم الله - تعلى - يتامى ، إما على أصل اللغة ، وإما لقرب عهدهم باليُتْم ، وإن كان قد زال من هذا الوقت كقوله تعالى : { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [ الأعراف : 120 ] .
أي : الذين كانوا سحرة قبل السُّجود ، وأيضاً سمَّى اللَّهُ تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ } [ الطلاق : 2 ] والمعنى مقاربة الأجل ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى :
{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 6 ] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ .
الوجه الثاني : أن يقال : المراد باليتامى الصِّغار ، وعلى هذا ففي الآية وجهان :
أحدهما : أن قوله " وَآتُوا " أمر ، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى : أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم . فتزول المناقضة .
والثاني : أنَّ المُرَاد : وآتوا اليتامى حال كونهم يَتَامَى ما يحتاجونه مِنْ نفقتهم وكسوتهم ، والفائدة فيه : أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره ، فأباح اللَّهُ - تعالى - ذلك ، وفيه إشكال وهو : أنه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم ، والآية تَدُلُّ على إيتائهم كل مالهم{[6418]} .
نقل أبو بكر الرازيُّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم ، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى ، فَشَكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل اللهُ تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] . فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
قال المفسرون{[6419]} : الصحيح أنها " نزلت في رجل من غطفان ، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمُّهُ فترافعا إلى النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فلما علمها العَمُّ قال : أطَعْنَا اللَّهَ وأطعنا الرَّسُولَ ، نعوذ بالله من الحُوب الكبير ، ودفع إليه ماله{[6420]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيطعْ رَبَّهُ هكذا فإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ " أي : جَنَّتهُ ، فلما قبض الصَّبِيُّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى لله عليه وسلم " ثَبَتَ الأجْرُ وَبَقِيَ الوِزْرُ " فقالوا : يا رسول الله : لقد عرفنا أنه ثبت الأجْرُ ، فكيف بقي الوِزْرُ وهو ينفق في سبيل الله فقال : " ثبت الأجْرُ لِلْغُلاَم ، وَبَقِي عَلَى وَالِدِهِ الْوزْرُ " {[6421]} " .
قال القرطبيُّ{[6422]} : وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين :
أحدهما : إجراء الطَّعام والكسوة ما دامت الولاية ، إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير .
والثاني : الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه ، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيماً مجازاً بمعنى : الَّذي كان يتيماً استصحاباً للاسم ، كقوله { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [ الشعراء : 46 ] أي الذين كانوا سحرة ، وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم " يتيم أبي طالب " فإذا تحقَّقَ الوليّ رشده حَرُمَ عليه إمساك ماله عنه .
قال أبو حنيفة : إذا بلغ خمساً وعشرين سنة ، أعطي ماله على كل حال ؛ لأنَّه يصير جداً .
قوله : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ } وقد تقدَّم في البقرة قوله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 59 ] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك ، والمنصوب هو الحاصل ، وتفعل هنا بمعنى استفعل ، وهو كثير ، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة : [ الطويل ]
فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا *** عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ{[6423]}
قل الواحدي{[6424]} : " تبدل الشَّيء بالشيء إذا أخذ مكانه " .
هو المفعول الثاني ل " تتبدلوا " .
الأول : قال الفرّاء والزَّجَّاج{[6425]} : لا تستبدلوا الحرام ، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي لأبيح لكم .
الثاني : قل سعيد بن المسيب والنخعي والزهْريُّ والسُّدِّيُّ : وكان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتم ، ويجعلون مكانه الرديء ، وربما كان أحدهم أخذ الشّاة السّمينة ، ويضع من مال اليتم ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ، ويجعل مكانه الزيف ، يقول : درهم بدرهم ، فَنُهُوا عن ذلك .
وطعن الزمخشريُّ{[6426]} : في هذا الوجه فقال : ليس هذا تَبَدُّلاً ، إنما هو تبديل .
الثالث : أن يكون صديقه فيأخذ منه نعجة عجفاء{[6427]} مكان سمينة من مال الصبي .
الرابع : معناه لا تأكلوا مال اليتيم سلفاً مع التزام بَدَلِهِ بعد ذلك .
قل أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " الطيِّب " في القرآن على أربعة أوجه :
الثاني : بمعنى الظَّاهر كقوله تعالى : { صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] أي : ظاهراً .
الثالث : بمعنى الحَسَن قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }
[ فاطر : 10 ] أي : الحسن ، ومثله { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] أي : الكلام الحسن للمؤمنين .
الرابع : الطيِّبَ : المؤمن قال تعالى : { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 179 ] يعني : الكافر من المؤمن .
قوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } في قوله ثلاثة أوجه :
أحدها : أن " إلى " بمعنى " مع " كقوله : { إِلَى الْمَرَافِقِ } [ المائدة : 6 ] ، وهذا رأي الكوفيين .
الثاني : أنها على بابها وهي ومجرورها{[6428]} متعلّقة بمحذوف على أنَّها حال ، أي : مضمومة ، أو مضافة إلى أموالكم .
الثالث : أن يضمَّن " تأكلوا " بمعنى " تضموا " كأنه قيل : ولا تَضمُّوهَا إلى أموالكم آكلين .
قال الزمخشريُّ{[6429]} : فإن قلت : قد حَرَّمَ عليهم أكل مال{[6430]} اليتامى ، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم ، فَلِمَ ورد النهي عن أكلها معها ؟
قلت : " لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله - تعالى - من الحلال ، وهم مع ذلك يَطْعمون منها ، كان القبحُ أبلغ والذمُّ ألحق ، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم ، وشَنَّعَ بهم ليكون أزجر لهم " .
واعلم أنه تعالى ، وَإنْ ذكر الأكل ، فالمرادُ به سائر التصرفات المملكة للمال ، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله .
قوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً } في الهاء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تعود على الأكل المفهوم ، من " لا تأكلوا " .
الثَّاني : على التبدُّلِ المفهوم من " لا تَتَبَدَّلُوا الخبيثَ " .
الثالث : عليهما ذهاباً به مذهب اسم الإشارة نحو : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ }
[ البقرة : 68 ] ومنه : [ الرجز ]
كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ{[6431]} *** . . .
وقد تقدم ذلك في البقرة ، والأول أولى لأنه أقرب مذكور .
وقرأ الجمهور " حُوباً " بضم الحاءِ ، والحسن بفتحها{[6432]} ، وبعضهم : " حَاباً " بالألف ، وهي لغت في المصدر ، والفتح لغة تميم .
ونظير الحوْب والحاب ، والقول والقال ، والطُّرد والطَّرْد - وهو الإثم - وقيل : المضموم اسم مصدر ، [ والمفتوح مصدر ]{[6433]} وأصله من حوب الأبل ، وهو زجرها فسُمِّي به لإثم ؛ لأنه يزجر به ، ويطلق على الذَّنب أيضاً ؛ لأنه يزجر عنه ، ومنه قول عليه السلام : " إنَّ طَلاقَ أمِّ أيُّوبَ لَحُوْب " {[6434]} أي : لذنب عظيم . وقل القرطبي{[6435]} : والحوبُ الوحشة ، ومنه قوله عليه السَّلام لأبي أيوب " إن طلاق أم أيوب لحوب " .
قال القفال{[6436]} : وكأن أصل الكلمةِ من التَّحوُّبِ وهو التَّوجُّعُ ، فالحوبُ هو ارتكاب ما يتوجَّعُ المرتكبُ منه ، يقال : حَابَ يَحُوب ، حَوْباً ، وحَاباً وحِيابة .
قال المخبل السعدي : [ الطويل ]
فلا يَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حُوبُ *** فَإنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ{[6437]}
وإنّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ *** غَدَاتَئِذٍ لَقَدْ خَطِئَا وَحَابَا{[6438]}
والحَوْبةُ : المرة الواحدة ، والحَوْبَةُ : الحاجة ، ومنه في الدعاء " إليكَ أرفع حَوْبَتِي " ، وأوقْعَ اللَّهُ الْحَوْبَة ، و " تحوَّب فلان " إذا خرج من الحَوْب كتحرَّج وتَأَثَّمَ ، والتضعيف للسَّلْبِ ، و " الحَوْأب " بهمزة بعد الواو المكان الواسع والحوب الحاجة ، يقال : ألحق اللَّهُ به الحوبةَ ، أي : [ المسألة ]{[6439]} والحاجة ، والمسكنة ومنه قولهم باب بحيبة سوء ، وأصل الياء الواو ، وتحوَّب فلان أي : تعبد وألقى الحوب عن نفسه ، والتحوُّب أيضاً التحزُّن ، وهو أيضاً الصياحُ الشديد كالزَّجْرِ .