فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

{ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أمولهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا { 2 } وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذاك أدنى ألا تعولوا { 3 } } .

{ وآتوا } أعطوا { اليتامى أموالهم } شروع في موارد الاتقاء ومظانه ، وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم وملابستهم للأرحام ، والخطاب للأولياء والأوصياء ، واليتيم من لا أب له ، وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم ، وقد تقدم تفسير معناه في البقرة مستوفى .

وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطاءهم أموالهم مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتيم بالبلوغ مجازا باعتبار ما كانوا عليه ، ويجوز أن يراد باليتامى المعنى الحقيقي . وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة لا دفعها جميعها ، هذه الآية مقيدة بالأخرى وهي قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فلا يكون مجرد ارتفاع اليتيم بالبلوغ مسوغا لدفع أموالهم حتى يؤنس عنهم الرشد .

{ ولا تتبدلوا الخبيث } هو مال اليتيم وإن كان جيدا لكونه حراما { بالطيب } وهو مال الولي لكونه حلالا وإن كان رديئا فالباء داخلة على المتروك نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموال اليتامى ، فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويعوضونه بالرديء من أموالهم ، ولا يرون بذلك بأسا .

وقيل المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب من أموالكم وقيل المراد لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله ، والأول أولى فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذ مكانه ، وكذلك استبداله ومنه قوله تعالى { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } وقوله { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } وأما التبديل فقد يستعمل كذلك كما في قوله { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } وأخرى بالعكس كما في قولك بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما ، نص عليه الأزهري .

وذهب جماعة من المفسرين إلى أن المنهي عنه في هذه الآية يعني { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } هو الخلط فيكون الفعل مضمنا معنى الضم أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، وهذا نهي عن منكر آخر كانوا يفعلونه بأموال اليتامى ، وخص النهي بالمضموم وإن كان أكل مال اليتيم حراما وإن لم يضم إلى مال الوصي ، لأن أكل ماله مع الاستغناء عنه أقبح ، فلذلك خص النهي به أو لأنهم كانوا يأكلونه مع الاستغناء عنه ، فجاء النهي على ما وقع منهم بالقيد للتشنيع .

وإذا كان التقييد لهذا الغرض لم يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها ، قاله الكرخي ، ثم نسخ هذا بقوله تعالى { وإن تخالطوهم فإخوانكم } وقيل إن إلى بمعنى مع كقوله تعالى { من أنصاري إلى اللله } والأول أولى .

{ إنه } أي أكل مال اليتيم من غير حق أو التبديل المفهوم من { لا تتبدلوا } أو المراد كلاهما ذهابا بها مذهب اسم الإشارة نحو { عوان بين ذلك } والأول أولى لأنه أقرب مذكور { كان حوبا } قرئ بضم الحاء وبفتحها ، وحابا بالألف لغات في المصدر ، والفتح لغة تميم ، وهو الإثم ، يقال حاب الرجل يحوب حوبا إذا أتم واكتسب الإثم ، وأصله الزجر للإبل فسمي الإثم حوبا لأنه يزجر عنه ، والحوبة الحاجة والحوب أيضا الوحشة والتحوب التحزن .

عن سعيد ابن جبير قال إن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية بقول : لا تستبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم . وعن مجاهد قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك ، ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم تخلطونها فتأكلونها جميعا إنه كان إثما { كبيرا } وعن ابن زيد قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار ، يأخذه الكبير فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي يأخذ خبيث .