السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

{ وآتوا اليتامى } أي : بعد البلوغ والرشد { أموالهم } وسموا اليتامى بعد البلوغ مع أنّ اليتيم في عرف الشرع صغير لا أب له على معنى أنهم كانوا يتامى ، وإن كان اليُتْيم في اللغة الانفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة ، وقيل : اليتيم في الإناس من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات وفي الطير من قبلهما ، والخطاب للأولياء والأوصياء .

روي أنّ رجلاً كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال من عمه فمنعه فترافعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحله داره ) أي : جنته ، وسيأتي تفسير الحوب الكبير ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( ثبت الأجر وبقي الوزر ) فقالوا : يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟ فقال : ( ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده ) أي : ولعله كان لا يخرج زكاته { ولا تتبدلوا الخبيث } أي : الحرام { بالطيب } أي : الحلال أي : لا تأخذوه بدله كما تفعلون في أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه .

قال الزمخشريّ : وهذا ليس بتبدل ، وإنما هو تبديل ، قال التفتازانيّ : لأن معنى تبدلت هذا بذاك أنك أخذت هذا وتركت ذاك وكذا استبدلت ؛ لأنّ معنى بدلت هذا بذاك أخذت ذاك وأعطيت هذا قال تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } ( البقرة ، 108 ) .

فإذا أعطى الرديء وأخذ الجيد فقد أعطى الخبيث وأخذ الطيب كما لو أخذ الخبيث وترك الطيب ؛ ليكون تبدل الخبيث بالطيب ، فالحاصل أنّ في التبدل ما دخلته الباء متروك ، وما تعدى إليه الفعل بنفسه مأخوذ وفي التبديل بالعكس اه . وقد أوضحت ذلك في «شرح المنهاج » { ولا تأكلوا أموالهم إلى } أي : مع { أموالكم } كقوله تعالى : { من أنصاري إلى الله } ( آل عمران ، 52 ) .

أي : مع الله ، أي : لا تنفقوهما معاً ، ولا تسووا بينهما ، فأكلكم أموالكم حلال لكم ، وأكلكم أموالهم حرام عليكم ، فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم .

فإن قيل : قد حرم الله عليهم أكل مال اليتيم وحده ومع أموالهم فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ أجيب : بأنهم كانوا يفعلون كذلك فأنكر عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم ؛ ولأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم مع ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق { إنه } أي : أكلها { كان حوباً } أي : ذنباً { كبيراً } أي : عظيماً ولما نزلت هذه الآية في اليتامى ، وما كان في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك العدل في حقوق اليتامى ، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست ولا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهنّ نزل .