ثم ذم الظهار فقال :{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم } قرأ عاصم : { يظاهرون } فيها بضم الياء وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، وحمزة ، والكسائي : بفتح الياء والهاء ، وتشديد الظاء وألف بعدها . وقرأ الآخرون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء من غير ألف . { ما هن أمهاتهم } أي : اللواتي يجعلونهن من زوجاتهم كالأمهات بأمهات . وخفض التاء في { أمهاتهم } على خبر " ما " ومحله نصب كقوله : { ما هذا بشرا }( يوسف- 31 ) المعنى : ليس هن بأمهاتهم ، { إن أمهاتهم } أي ما أمهاتهم ، { إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول } لا يعرف في شرع { وزوراً } كذباً ، { وإن الله لعفو غفور } عفا عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم . وصورة الظهار : أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، أو أنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي ، وكذلك لو قال : أنت علي كبطن أمي أو كرأس أمي أو كبد أمي أو قال : بطنك أو رأسك أو يدك علي كظهر أمي ، أو شبه عضواً منها بعضو آخر من أعضاء أمه فيكون ظهاراً . وعند أبي حنيفة -رضي الله عنه- إن شبهها ببطن الأم أو فرجها أو فخذها يكون ظهاراً ، وإن شبهها بعضو آخر لا يكون ظهاراً . ولو قال أنت علي كأمي أو كروح أمي ، وأراد به الإعزاز والكرامة فلا يكون ظهاراً حتى يريده ، ولو شبهها بجدته فقال : أنت علي كظهر جدتي يكون ظهاراً ، وكذلك لو شبهها بامرأة محرمة عليه بالقرابة بأن قال : أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي ، أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهاراً -على الأصح من الأقاويل- .
ثم يقرر أصل القضية ، وحقيقة الوضع فيها :
( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم . إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم . وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، وإن الله لعفو غفور ) . .
فهو علاج للقضية من أساسها . إن هذا الظهار قائم على غير أصل . فالزوجة ليست أما حتى تكون محرمة كالأم . فالأم هي التي ولدت . ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أما بكلمة تقال . إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع . وكلمة مزورة ينكرها الحق . والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع ، في وضوح وتحديد ، فلا تختلط ذلك الاختلاط ، ولا تضطرب هذا الاضطراب . . ( وإن الله لعفو غفور )فيما سلف من هذه الأمور .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مّا هُنّ أُمّهَاتِهِمْ إِنْ أُمّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ } .
يقول تعالى ذكره : الذين يحرّمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم ، فيقولون لهنّ : أنتن علينا كظهور أمهاتنا ، وذلك كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية . كذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : كان الظهار طلاقا في الجاهلية ، الذي إذا تكلم به أحدهم لم يرجع في امرأته أبدا ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه ما أنزل .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى نافع ، وعامة قرّاء الكوفة خلا عاصم : «يَظّاهَرُونَ » بفتح الياء وتشديد الظاء وإثبات الألف ، وكذلك قرأوا الأخرى بمعنى يتظاهرون ، ثم أدغمت التاء في الظاء فصارتا ظاء مشدّدة . وذكر أنها في قراءة أُبي : «يَتَظاهَرُونَ » وذلك تصحيح لهذه القراءة وتقوية لها وقرأ ذلك نافع وأبو عمرو وكذلك بفتح الياء وتشديد الظاء ، غير أنهما قرآه بغير ألف : «يَظّهّرونَ » . وقرأ ذلك عاصم : يُظاهِرُونَ بتخفيف الظاء وضم الياء وإثبات الألف .
والصواب من القول في ذلك عندي أن كلّ هذه القراءات متقاربات المعاني . وأما «يَظّاهَرُونَ » فهو من تظاهر ، فهو يتظاهر . وأما «يَظّهّرُونَ » فهو من تظهّر فهو يتظهّر ، ثم أدغمت التاء في الظاء فقيل : يظّهر . وأما يُظاهِرُونَ فهو من ظاهر يظاهر ، فبأية هذه القراءات الثلاث قرأ ذلك القارىء فمصيب .
وقوله : ما هُنّ أمّهاتِهِمْ يقول تعالى ذكره : ما نساؤهم اللائي يُظاهرن منهنّ بأمهاتهم ، فيقولوا لهنّ : أنتن علينا كظهر أمهاتنا ، بل هنّ لهم حلال .
وقوله : إنْ أُمّهاتُهُمْ إلاّ اللاّئي وَلَدْنَهُمْ لا اللائي قالوا لهنّ ذلك .
وقوله : وإنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرا مِنَ القَوْلِ وَزُورا يقول جلّ ثناؤه : وإن الرجال ليقولون منكرا من القول الذي لا تُعرف صحته وزورا : يعني كذبا ، كما :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مُنْكَرا مِنْ القَوْلِ وَزُورا قال : الزور : الكذب وَإنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ يقول جلّ ثناؤه : إن الله لذو عفو وصفح عن ذنوب عباده إذا تابوا منها وأنابوا ، غفور لهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة .
الذين يظاهرون منكم من نسائهم الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي مشتق من الظهر وألحق به الفقهاء تشبيهها بجزء أنثى محرم وفي منكم تهجين لعادتهم فيه فإنه كان من إيمان أهل الجاهلية وأصل يظاهرون يتظاهرون وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي يظاهرون من إظاهر ، وعاصم يظاهرون من ظاهر ما هن أمهاتهم أي على الحقيقة إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن كالمرضعات وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وعن عاصم أمهاتهم بالرفع على لغة بني تميم وقرىء ب أمهاتهم وهو أيضا على لغة من ينصب وإنهم ليقولون منكرا من القول إذ الشرع أنكره وزورا منحرفا عن الحق فإن الزوجة لا تشبه الأم وإن الله لعفو غفور لما سلف منه مطلقا أو إذا تيب عنه .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «يظهرون » ، وقرأ أبي بن كعب بخلاف عنه : «يتظهرون » . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : «يظاهرون » . وقرأ أبي بن كعب أيضاً : «يتظاهرون » . وقرأ عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة : «يُظاهرون » بضم الياء من قولك فاعل ، وهذه مستعملة جداً وقولهم الظهار دليل عليها ، والمراد بهذا كله قول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، يريد في التحريم كأنها إشارة إلى الركوب ، إذ عرفه في ظهور الحيوان ، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ، فرد الله بهذه الآية فعلهم ، وأخبر بالحقيقة من أن الأم هي الوالدة ، وأما الزوجة فلا يكون حكمها حكم الأم .
وقرأ جمهور الناس : «أمهاتِهم » بنصب الأمهات ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه : «أمهاتُهم » بالرفع وهذا على اللغتين في { ما } لغة الحجاز ولغة تميم ، وقرأ ابن مسعود «ما هنّ بأمهاتهم » بزيادة باء الجر ، وجعل الله تعالى القول بالظهار { منكراً } { وزوراً } ، فهو محرم ، لكنه ، إذا وقع لزم ، هكذا قال فيه أهل العلم ، لكن تحريمه تحريم المكروهات جداً ، وقد رجى الله تعالى بعده بأنه { لعفو غفور } مع الكفارة .