الآية 2 وقوله تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } قرئ يظّهرون مشددة الظاء بغير ألف ، وهو في الأصل : يتظهرون ، فأدغمت التاء في الظاء ، وشددت ، وقرئ يظاهرون {[20727]}بفتح الياء وتشديد الظاء بألف ، وهو في الأصل : يتظاهرون ، فأدغمت التاء في الظاء ، وشددت ، وقرئ أيضا يظاهرون بضم الياء وتخفيف الظاء بألف من ظاهر يظاهر مظاهرة ، والمعنى واحد في ما اختلف من قراءاتهم ، يقال : ظاهر الرجل من امرأته ، ويظاهر منها ، وتظاهر ، وتظهر منها بمعنى واحد ، وهو أن يقول لها : أنت علي كظهر أمي .
وقال القتبي : يظاهرون ، أي يحرمون تحريم ظهور الأمهات .
وقال أبو عوسجة : يظاهرون هذه يمين أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، وأما يظاهرون فمن {[20728]}التظاهر ، وهو التعاون ، أي تعاونوا ، ولكن هو خلاف ما تضمنته الآية ، والله اعلم .
ثم الظهار كان عند ذلك القوم ظاهرا ، وهو ما روينا في الأخبار أن امرأة أوس ابن الصامت لما همت أن تخرج من الدار قال لها : إن خرجت من الدار فأنت علي كظهر أمي ، وكذلك هذه الدلالة في قوله : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } ، والظهار أخذ اسمه من الظهر ، وكذلك في ما عرفه المسلمون في ما بينهم هذا اللفظ ، وهو قوله : أنت علي كظهر أمي .
أما ظاهر الآية فيوجب أن يكون الظهار في ما يقول : أنت علي كأمي وهو قوله { ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا التي ولدنهم } ذكر الأمهات ، ولم يذكر ظهر الأمهات ، فصار ظاهر الآية يوجب هذا .
وبهذا احتج محمد بن الحسن لمذهبه في من قال لامرأته : أنت علي كأمي ، قال يكون ظهارا من غير نية .
وأما أبو حنيفة ، رحمة الله ، فإنه قال : لا يكون مظاهرا إلا [ أن ] {[20729]} ينوي بذلك الحرمة ، فإن نوى به كان ، وذهب في ذلك إلى ما روي في الأخبار ذلك الحرف ، أعني قوله : أنت علي كظهر أمي ، وإنما نزلت الآية في من قال ذلك القول ، فلا يحل لنا أن نصرفه إلى غيره إلا بدليل .
ثم قوله تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } أي ما هن لهم كأمهاتهم لأنه تعالى [ قال : ] {[20730]}{ ما هن أمهاتهم } على سبيل الرد لما أخبر تعالى عنهم بقوله تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } أي قالوا لنسائهم : أنتن علينا كظهور أمهاتنا وقوله تعالى : { ما هن أمهاتهم } في الظاهر يكون ردا لقول من قالوا لنسائهم : أنتن {[20731]} كأمهاتنا لا لمن قالوا : أنتن{[20732]} كأمهاتنا أو كظهور أمهاتنا ، فيحمل بذلك القول أن مراد الله تعالى بقوله : { ما هن أمهاتهم } أي كأمهاتهم .
ولكن الإشكال أنه إذا صار تقدير الآية : ما هن كأمهاتهم ، فما معنى قوله : { إن أمهاتهم إلا التي ولدنهم } : أنهم كانوا يدعون التشبيه بالأمهات ، والله تعالى نفى ما ادّعوا من التشبيه في ما مضى لبيان حقيقة الأمهات ، وهن اللائي ولدنهم ، وهم يعرفون ذلك ، ولا ينكرونه ، ولا يدعون في نسائهم أنهن أمهاتهم حقيقة حتى يرد عليهم {[20733]}دعواهم بقوله : { إن أمهاتهم إلا التي ولدنهم } .
وإشكال آخر : أنه قال : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } وظاهرا هذا القول منهم ليس بقول الزور ولا المنكر ، إذ ليس [ قولهم ذلك ]{[20734]} : ظهرك كظهر أمي ، أو أنت علي كظهر أمي أو كأمي إلا التشبيه ، وهي [ تعلم أن ]{[20735]}ظهرها كظهر أمهات في الهيئة والخلقة والتشبيه لا يقتضي العموم ، فما معنى تسميتهم تشبيه المرأة بالأم منكرا وزورا .
وإشكال آخر : أنه قد سمى الله تعالى غير الأمهات اللائي ولدنهم أمهات لهم ، فإنه قال في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] وقال في النساء اللاتي يرضعن أولاد الغير : { وأمهاتكم التي أرضعناكم } [ النساء : 23 ولم يلدنهم .
فنقول وبالله التوفيق : إنهم كانوا يريدون أن يوجبوا في نسائهم حقوقا وأحكاما ما كانت في أمهاتهم ، لم يكن لهم إيجاب ذلك ، فإنهم كانوا يشبهون النساء بالأمهات ، ولم يريدوا بذلك التشبيه من حيث الصورة أو الخلقة ، ولكن [ يريدون ] {[20736]} بذلك التشبيه [ التشبيه ] {[20737]}في الحرمة .
وحرمة النساء في الأصل غير حرمة الأمهات ، فإن الأم حرام الاستمتاع بها على التأبيد ، لكن يباح للرجل أن يدخل على أمه ، ويخدمها ويسافر بها ، ويباح [ له ] {[20738]} النظر والمس والإركاب والإنزال والخلوة بها والمقام معها .
والمرأة متى حرمت بالطلاق بالثلاث أو بالبينونة لا يثبت شيء من هذه الحقوق .
والمشابهة بين الشيئين ، إن كانت لا تقتضي التساوي بينهما من كل وجه ، ولكن تقتضي المساواة بينهما في وجه من الوجوه على الكمال ، فإن الذات في الشاهد إذا قام به العلم يسمى عالما ، والله تعالى عالما ، ولا يوجب التشبيه لانعدام التماثل بين العالمين والتساوي في كل وجه ، فلم يعد متشابها ، تعالى الله عن ذلك ، فدل أن هؤلاء بتشبيههم النساء بأمهاتهم أرادوا أن يجعلوا حرمة نسائهم كحرمة أمهاتهم ، ويوجبون فيهن حقوقا فيهن حقوقا وأحكاما كحقوقهن وأحكامهن حتى تباح لهم المعاملة مع نسائهم ما تباح مع أمهاتهم ، ويحرم ما يحرم معهن ، ويكون احترامهن كاحترامهن ، والله تعالى لم يجعل ذلك ، ونهاهم عن ذلك فقال : { ما هن أمهاتهم } أي كأمهاتهم في هذه الحرمة التي يريدون إثباتها .
وإنه لم يجعل لنسائهم حرمة أمهاتهم اللاتي ولدنهم ، فما بالهم يخترعون من أنفسهم شيئا لم أجعله ، ولم أشرعه ؟ فرد صنيعهم بهذا . وعلى هذا يخرج تأويل قوله تعالى : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } إنما كذبهم بما قالوا من إيجاب تلك الحقوق والأحكام على أنفسهم في نسائهم من غير أن جعل الله تعالى ذلك ، أي { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } في إيجاب الحقوق فيهن كما في الأمهات وتشبيههم إياهن بالأمهات في الأحكام والحقوق والحرمة ، وإن كان كلامهم وقولهم من حيث ظاهر التشبيه ليس بمنكر ولا بزور .
وهذا كقوله تعالى في وصف المنافقين { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ]وهؤلاء المنافقون في ما قالوا في الظاهر كانوا صدقة ، ولكن لما كان قصدهم غير ذلك ، وكان في قلوبهم إيجاب شيء ما أظهروا /554-ب / أسماهم كذبة ، فكذلك هؤلاء المظاهرون لما أرادوا إيجاب حكم لم يجعل لهم ذلك سمى قولهم منكرا وزورا .
والمنكر هو الذي لا يعرف في الشريعة ، والزور هو الكذب ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك .
وأما قولهم : إن الله تعالى قد سمى غير اللائي يلدنهم أمهات من نساء النبي صلى الله عليه وسلم والمرضعات ، منهم من قال : جائز أن تكون هذه الآية متقدمة على قوله : { وأمهاتكم التي أرضعنكم } [ النساء : 23 ] وقوله {[20739]} : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] فلم يكن في ذلك الوقت أمهات من رضاع ، ثم كانت من بعد ، فيكون الإخبار بهذا مقيدا بذلك الوقت ، وهو كقوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } [ الأنعام : 145 ] لم يجد في ذلك الوقت ، ثم وجد بعد ذلك غيره محرما . فعلى ذلك هذا .
وقيل : يحتمل أن يكون قال ذلك في قوم خاص وقبيلة خاصة ، لم يكن لهم أمهات من إرضاع ، فيكون الإخبار أن أمهاتهم ليست إلا اللائي ولدنهم صدقا .
ولكن هذا تكلف لأن قوله : { إن أمهاتهم إلا التي ولدنهم } أي إن هذه الحقوق والأحكام التي يوجبون ليست تثبت إلا في الأمهات اللاتي يلدنهم ، أو من كانت في معناهن وصرن أمثالهن شرعا ، يجعلهن {[20740]} الله تعالى كأزواج النبي صلى الله عليه وسلم والأمهات بسبب الرضاع ، والله تعالى لم يجعل لنسائهم تلك الحقوق ، ولا ألحقهن بالأمهات ، فيكون تشبيههن بهن في هذه الحقوق منكرا من القول وزورا ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.