السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّـٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ} (2)

ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه فقال تعالى : { الذين يظهرون } أي : يوجدون الظهار في أي زمان كان وقوله تعالى : { منكم } أي : أيها العرب المسلمون توبيخ لهم وتهجين لعادتهم لأنّ الظهار كان خاصاً بالعرب دون سائر الأمم فنبه تعالى على أنّ اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الكلام لأنّ الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية ثم زاده الإسلام استهجاناً { من نسائهم } أي : يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله تعالى عليهم ظهور أمّهاتهم .

والظهار لغة : مأخوذ من الظهر لأنّ صورته الأصلية أن يقول لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي ، وخصوا الظهر دون البطن والفخذ وغيرهما لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج .

وقيل : من العلو قال تعالى : { فما اسطاعوا أن يظهروه } [ الكهف : 97 ] أي : أن يعلوه وكان طلاقاً في الجاهلية ، وقيل : في أوّل الإسلام ويقال : كان في الجاهلية إذا كره أحدهم امرأته أنه ولم يرد أن تتزوج بغيره آلى منها أو ظاهر فتبقى لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره ؛ فغير الشارع حكمه إلى تحريمها بعد العود ولزوم الكفارة كما سيأتي .

وحقيقته الشرعية : تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلاله وسمى هذا المعنى ظهاراً لتشبيه الزوجة بظهر الأم ، وله أركان أربعة : مظاهر ومظاهره منها وصيغة ومشبه به وشرط في المظاهر كونه زوجاً يصح طلاقه ، وشرط في المشبه به كونه كلّ أنثى محرم أو جزء أنثى محرم لم تكن حلاله كابنته وأخته ، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالظهار صريح كأنتِ أو رأسك أو بدنك كظهر أمي أو كجسمها أو بدنها أو كناية كانت أمي أو كعينها أو غيرها مما يذكر للكرامة كرأسها أو روحها ويصح تأقيته وتعليقه ، وأصل يظهرون يتظهرون أدغمت التاء في الظاء وقرأ { الذين يظاهرون } و{ الذي يظاهرون } عاصم بضم الياء وتخفيف الظاء وبعدها ألف وتخفيف الهاء مكسورة ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء وتشديد الظاء وتخفيف الهاء مع فتحها وبين الظاء والهاء ألف ، والباقون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء ولا ألف بينهما { ما هنّ } أي : نساؤهم { أمهاتهم } أي : على الحقيقة { إن } أي : ما { أمهاتهم } أي : حقيقة { إلا اللائي ولدنهم } ونساؤهم لم يلدنهم فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام ، ولا هنّ ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح كأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنهنّ أمّهات لما لهنّ من حق الإكرام والاحترام والإعظام ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أبي النسب ، وكذا المرضعات ، لما لهنّ من حق الرضاع الذي هو وظيفة الأمّ بالأصالة . وأمّا الزوجة فمباينة لجميع ذلك .

وقرأ قالون وقنبل : بالهمزة المكسورة ولا ياء بعدها ، وقرأ ورش والبزي وأبو عمرو بتسهيل الهمزة مع المدّ والقصر وللبزي وأبو عمر وأيضاً موضع الهمزة ياء ساكنة مع المدّ والباقون بهمزة مكسورة وبعدها ياء وهم على مراتبهم في المدّ { وإنهم } أي : المظاهرون { ليقولون } أي : في هذا التظهر على كلّ حالة { منكراً من القول } إذ الشرع أنكره وهو حرام اتفاقاً كما نقل عن الرافعي في باب الشهادات { وزوراً } أي : قولاً مائلاً عن السداد منحرفاً عن القصد ، لأنّ الزوجة معدّة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان والأمّ في غاية البعد عن ذلك .

فإن قيل : المظاهر إنما قال : أنت عليّ كظهر أمي فشبه بأمه ولم يقل أنها أمّه فما معنى أنه منكر من القول وزور والزور الكذب وهذا ليس بكذب .

أجيب : بأنّ قوله هذا إن كان خبراً فهو كذب وإن كان إنشاء فهو كذلك لأنه جعله سبباً للتحريم والشرع لم يجعله سبباً لذلك ، وأيضاً فإنما وصف بذلك لأنّ الأم مؤبدة التحريم والزوجة لا يتأبد تحريمها بالظهار فهو زور محض .

فإن قيل : قوله تعالى : { إلا اللائي ولدنهم } يقتضي أن لا أمّ إلا الوالدة وهذا مشكل بقوله تعالى : { وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم } [ النساء : 23 ] وقوله تعالى : { وأزواجه أمّهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] .

أجيب : بأنّ الشارع ألحقهنّ بالوالدات لما مر { وإن الله } أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره { لعفوّ } أي : من صفاته أن يترك عقاب من شاء { غفور } أي : من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره .