{ سلام } قال عطاء : يريد : سلام على أولياء الله وأهل طاعته . وقال الشعبي : هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر . وقال الكلبي : الملائكة ينزلون فيها كلما لقوا مؤمناً أو مؤمنة سلموا عليه من ربه حتى يطلع الفجر . وقيل : تم الكلام عند قوله :{ بإذن ربهم من كل أمر } ثم ابتدأ فقال : { سلام هي } أي : ليلة القدر سلام وخير كلها ، ليس فيها شر . قال الضحاك : لا يقدر الله في تلك الليلة ولا يقضي إلا السلامة . وقال مجاهد : يعني أن ليلة القدر سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ، ولا أن يحدث فيها أذى . { حتى مطلع الفجر } أي : إلى مطلع الفجر ، قرأ الكسائي { مطلِع } بكسر اللام ، والآخرون بفتحها ، وهو الإخبار بمعنى الطلوع ، على المصدر ، يقال : طلع الفجر طلوعاً ومطلعاً ، والكسر موضوع الطلوع .
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة ، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة ، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها ، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان ، وفي واقع الأرض ، وفي تصورات القلوب والعقول . . فإننا نرى أمرا عظيما حقا . وندرك طرفا من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة : ( وما أدراك ما ليلة القدر ? ) . .
ولقد فرق فيها من كل أمر حكيم . وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين . وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد . أقدار أمم ودول وشعوب . بل أكثر وأعظم . . أقدار حقائق وأوضاع وقلوب !
ولقد تغفل البشرية - لجهالتها ونكد طالعها - عن قدر ليلة القدر . وعن حقيقة ذلك الحدث ، وعظمة هذا الأمر . وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها ، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي - سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع - الذي وهبها إياه الإسلام . ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة . فهي شقية ، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش !
لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة ، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى . وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب . فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين . .
ونحن - المؤمنين - مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى ؛ وقد جعل لنا نبينا صلى الله عليه وسلم سبيلا هينا لينا لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبدا ، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها . . وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام ، ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان . . في الصحيحين : " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " . . وفي الصحيحين كذلك : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " . .
والإسلام ليس شكليات ظاهرية . ومن ثم قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في القيام في هذه الليلة أن يكون " إيمانا واحتسابا " . . وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة " إيمانا " وليكون تجردا لله وخلوصا " واحتسابا " . . ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام . ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن .
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير ، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير .
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك . وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة ، وعن غير طريقها ، لا يقر هذه الحقائق ، ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة . .
وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيمانا واحتسابا ، هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم .
وقوله : { سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } سلام ليلة القدر من الشرّ كله من أوّلها إلى طلوع الفجر من ليلتها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { سَلامٌ هِيَ } قال : خير حَتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " مِنْ كُل أمْرٍ { سَلامٌ هِيَ } " أي هي خير كلها إلى مطلع الفجر .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد { سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } قال : من كلّ أمرٍ سلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { سَلامٌ هِيَ } قال : ليس فيها شيء ، هي خير كلها حتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا عبد الحميد الحِمّانيّ ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عبد الرحمن بن أبي لَيَلى ، في قوله : " مِنْ كُلّ أمْرٍ { سَلامٌ هِيَ } " قال : لا يحدث فيها أمر .
وعُنِي بقوله : { حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } : إلى مطلع الفجر .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار ، سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائيّ { مَطْلَعِ الْفَجْرِ } بفتح اللام ، بمعنى : حتى طلوع الفجر ، تقول العرب : طلعت الشمس طلوعا ومَطْلَعا . وقرأ ذلك يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي : { حَتّى مَطْلِعِ الْفَجْرِ } بكسر اللام ، توجيها منهم ذلك إلى الاكتفاء بالاسم من المصدر ، وهم ينوون بذلك المصدر .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : فتح اللام لصحة معناه في العربية ، وذلك أن المطلَع بالفتح هو الطلوع ، والمطلِع بالكسر : هو الموضع الذي تَطْلُع منه ، ولا معنى للموضع الذي تطلع منه في هذا الموضع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.