محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ} (5)

وقوله تعالى :{ سلام هي حتى مطلع الفجر } أي إنها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى ، والإخبار عنها بالسلام نفسه ، وهو الأمن والسلامة للمبالغة في أنه لم يشبها كدر ؛ بل فرج الله فيها عن نبيه كل كربة ، وفتح له فيها سبل الهداية ، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها الأيام والشهور والطوال .

تنبيهات :

الأول : قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدىء فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } ولا إجماع في تعيين تلك الليلة ، بل في ( صحيح البخاري ) {[7525]} " أنها رفعت " أي رفع العلم بتعيينها ، وفي رواية فيه " نسيتها أو أنسيتها " من قوله صلوات الله عليه ، ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه ، نعم الأقوى رواية أنها في العشر الأخير من رمضان لما كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف فيه ، وإحياء ليله ، وإيقاظ أهله ، وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين ، قال ابن حجر : وحجتهم حديث وائلة أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان ، وقد اضطربت أقوال السلف فيها - صحابة ومن بعدهم - حتى أنافت على أربعين قولا .

قال الإمام : ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان ، ولا نعينها من بين لياليه ، فقد اختلفت فيها الروايات اختلافا عظيما ، وكتاب الله لم يعينها ، وما ورد في الأحاديث من ذكرها إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة ، شكرا لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم في أثنائها ، ولهم أن يعبدوا الله فيها أفرادا وجماعات ، فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها ، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله ، وهذا هو السر في عدم تعيينها ، وتشير إليه آية البقرة ، فإنها تجعل الشهر كله ظرفا لنزول القرآن ، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه . فهي ليلة عبادة وخشوع وتذكر لنعمة الحق والدين ، فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء يتسابق إليها المنافقون ، ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون ، كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام ، فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه ، ويسمعون شيئا من كتاب الله لا ينظرون فيه ، ولا يعتبرون بمعانيه ؛ بل إن أصغوا إليه فإنما يصغون لنغمة تاليه ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره ، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره ، ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال فضلا عن الراشدين من الرجال . انتهى .

وقال الطبري : إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة ، إذ لو كان حقا لم يخف على كل من قام ليالي السنة فضلا عن ليالي رمضان .

الثاني : حكى الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) قولا عن بعض العلماء : إن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ولعل مستنده ما صح أنها رفعت ، وقد قدمنا معناه ، ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه ، وعندي أن لا تنافي ؛ لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن ، وما كان فيها من التجلي الخاص التي انفردت به ، وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام هي ليلة فيها مزية على غيرها بفضل اختصت به دون غيرها ، وهذا هو السر في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه ، أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركا وتيمنا وشكرا لله تعالى على تلك النعمة والهداية ، فالقائم في ليالي العشر الأواخر أو في رمضان مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة ؛ لأنها منه قطعا ، وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسما للعبادة ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخر في تذكارهم ، وجعلها أعيادا تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو مما ينافي حكمة ذكراها ، فتأمل الفرق ، واحمد الله على اتباع الحق .

الثالث : قال الإمام : ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان ، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار ، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر ، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة ، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك ، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ومثل ذلك لم يرده لاضطراب الروايات ، وضعف أغلبها ، وكذب الكثير منها ، ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد ، ومثل ذلك يقال في بيت العزة ، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة ، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه ، وإلا كنا من الذين { إن يتبعون إلا الظن } نعوذ بالله ، وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة - مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ، ويعد من عقائد الدين ، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل - فاحذر أن تقع فيها مثلهم . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .


[7525]:اخرجه في 32- كتاب فضل ليلة القدر. 2- باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر حديث رقم 419، عن أبي سعيد الخدري.