قوله تعالى : { ويا قوم لا يجرمنكم } ، لا يحملنكم ، { شقاقي } ، خلافي { أن يصيبكم } ، أي : على فعل ما أنهاكم عنه ، { مثل ما أصاب قوم نوح } ، من الغرق ، { أو قوم هود } ، من الريح ، { أو قوم صالح } ، من الصيحة ، { وما قوم لوط منكم ببعيد } ، وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط . وقيل معناه وما دار قوم لوط منكم ببعيد ، وذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط .
{ لا يجرمنكم } معناه : لا يكسبنكم ، يقال : جرمه كذا وكذا وأجرمه إذا أكسبه ، كما يقال : كسب وأكسب بمعنى{[6477]} ، ومن ذلك قول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة*** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا{[6478]}
وقرأ الجمهور «يَجرمنكم » بفتح الياء ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «يُجرمنكم » بضمها ، و { شقاقي } معناه : مشاقتي وعداوتي{[6479]} ، و { أن } مفعولة ب { يجرمنكم } .
وكانت قصة قوم لوط أقرب القصص عهداً بقصة قوم شعيب ، وقد يحتمل أن يريد وما منازل قوم لوط منكم ببعيد ، فكأنه قال : وما قوم لوط منكم ببعيد بالمسافة ، ويتضمن هذا القول ضرب المثل لهم بقوم لوط .
وقرأ الجمهور «مثلُ » بالرفع على أنه فاعل { يصبكم } وقرأ مجاهد والجحدري وابن أبي إسحاق «مثلَ » بالنصب ، وذلك على أحد وجهين : إما أن يكون «مثل » فاعلاً ، وفتحة اللام فتحة بناء لما أضيف لغير متمكن ، فإن «مثل » قد يجري مجرى الظروف في هذا الباب وإن لمن يكن ظرفاً محضاً .
وإما أن يقدر الفاعل محذوفاً يقتضيه المعنى ، ويكون «مثلَ » منصوباً على النعت لمصدر محذوف تقديره : إصابة مثل .
تقدم الكلام على النكتة في إعادة النداء في الكلام الواحد لمخاطب متّحد قريباً .
وتقدم الكلام على { لا يجرمنكم } عند قوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تَعتدوا } في أول [ العقود : 2 ] ، أي لا يكسبنكم .
والشقاق : مصدر شاقّه إذا عاداه . وقد مضت عند قوله تعالى : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } في أول [ الأنفال : 13 ] .
والمعنى : لا تجر إليكم عداوتكم إياي إصابتَكم بمثل ما أصاب قوم نوح إلى آخره ، فالكلام في ظاهره أنه ينهى الشقاق أن يجر إليهم ذلك . والمقصود نهيهم عن أن يجعلوا الشّقاق سبباً للإعراض عن النظر في دعوته ، فيوقعوا أنفسهم في أن يصيبهم عذاب مثل ما أصاب الأمم قبلهم فيحسبوا أنهم يمكرون به بإعراضهم وما يمكرون إلاّ بأنفسهم .
ولقد كان فضْح سوء نواياهم الدّاعية لهم إلى الإعراض عن دعوته عقب إظهار حسن نيّته ممّا دعاهم إليه بقوله : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت } [ هود : 88 ] مصادفاً مَحزّ جَوْدة الخطابة إذ رماهم بأنّهم يعملون بضدّ ما يعاملهم به .
وجملة { وما قوم لوط منكم ببعيد } في موضع الحال من ضمير النّصب في قوله : { أن يصيبكم } والواو رابطة الجملة . ولمعنى الحال هنا مزيد مناسبة لمضمون جملتها إذ اعتبر قرب زمانهم بالمخاطبين كأنّه حالة من أحوال المخاطبين .
والمراد بالبُعد بُعد الزمن والمكان والنسب ، فزمن لوط عليه السّلام غير بعيد في زمن شعيب عليه السّلام ، والدّيار قريبة من ديارهم ، إذ منازل مدين عند عقبة أيلة مجاورة معان ممّا يلي الحجاز ، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت وكان مدين بن إبراهيم عليهما السّلام وهو جد القبيلة المسماة باسمه ، متزوجاً بابنة لوط .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي}، يقول: لا تحملنكم عداوتي {أن يصيبكم} من العذاب في الدنيا {مثل ما أصاب قوم نوح} من الغرق، {أو قوم هود} من الريح، {أو قوم صالح} من الصيحة، {وما قوم لوط}، أي ما أصابهم من الخسف والحصب {منكم ببعيد}، كان عذاب قوم لوط أقرب العذاب إلى قوم شعيب من غيرهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره، مخبرا عن قيل شعيب لقومه: {ويا قَوْمِ لا يجْرِمَنّكُمْ شِقاقي}، يقول: لا يحملنكم عداوتي وبغضي وفراق الدين الذي أنا عليه، على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان، وبخس الناس في المكيال والميزان، وترك الإنابة والتوبة، فيصِيبكم مثلُ ما أصابَ قومَ نوحٍ من الغرق، أوْ قومَ هودٍ من العذاب، أوْ قَوْمَ صَالحٍ من الرجفة. وما قَوْمُ لُوطٍ الذين ائتفكت بهم الأرض مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ هلاكهم، أفلا تتعظون به وتعتبرون؟ يقول: فاعتبروا بهؤلاء، واحذروا أن يصيبكم بشقاقي مثل الذي أصابهم... وقد يحتمل أن يقال: معناه: وما دار قوم لوط منكم ببعيد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأصل الجرم: الإثم والكسب ثم يخرج إنذاره إياهم بمن هلك من الأمم على وجهين: أحدهما: أن قوم شعيب قوم لا يؤمنون بالبعث والقيامة فأنذرهم بمن هلك من الأمم السالفة؛ لأنه لو كان ينذرهم بالبعث لكان لا ينجع فيهم لأنهم لا يؤمنون به.
والثاني: أنذرهم بأولئك لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان، ويتبعونهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والشقاق والمشاقة: المباعدة بالعداوة إلى جانب المباينة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} يعني أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم. أو لا يبعدون منكم في الكفر والمساوي وما يستحق به الهلاك...
{وما قوم لوط منكم ببعيد} ففيه وجهان:
الأول:أن المراد نفي البعد في المكان لأن بلاد قوم لوط عليه السلام قريبة من مدين. والثاني: أن المراد نفي البعد في الزمان لأن إهلاك قوم لوط عليه السلام أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب عليه السلام.
وعلى هذين التقديرين فإن القرب في المكان وفي الزمان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال، فكأنه يقول اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله تعالى ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته، أتبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحاً لم يبق معه إلا المعاندة، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكبها فقال: {ويا قوم} وأعز الناس عليّ {لا يجرمنكم} أي يحملنكم {شقاقي} أي شقاقكم لي على {أن يصيبكم} من العذاب {مثل ما} أي العذاب الذي {أصاب قوم نوح} بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم {أو قوم هود} على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم {أو قوم صالح} مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور...
ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة، غير الأسلوب تعظيماً للتهويل فقال: {وما قوم لوط} أي على قبح أعمالهم وسوء حالهم وقوة أخذهم ووبالهم {منكم ببعيد*} أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجدر الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها،...ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَا قَوْمُ لُوطٍ منكُم بِبَعِيدٍ} زماناً أو مكاناً، فإن لم تعتبروا بمن قبلَهم من الأمم المعدودةِ فاعتبروا بهم، فكأنه إنما غير أسلوبَ التحذيرِ بهم ولم يصرِّح بما أصابهم بل اكتفى بذكر قربِهم إيذاناً بأن ذلك مغنٍ عن ذكره لشهرة كونِه منظوماً في سِمْطِ ما ذُكر من دواهي الأممِ المرقومة أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمعاصي فلا يبعُد أن يُصيبَكم مثلُ ما أصابكم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالكلام في ظاهره أنه ينهى الشقاق أن يجر إليهم ذلك. والمقصود نهيهم عن أن يجعلوا الشّقاق سبباً للإعراض عن النظر في دعوته، فيوقعوا أنفسهم في أن يصيبهم عذاب مثل ما أصاب الأمم قبلهم فيحسبوا أنهم يمكرون به بإعراضهم وما يمكرون إلاّ بأنفسهم. ولقد كان فضْح سوء نواياهم الدّاعية لهم إلى الإعراض عن دعوته عقب إظهار حسن نيّته ممّا دعاهم إليه بقوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت} [هود: 88] مصادفاً مَحزّ جَوْدة الخطابة إذ رماهم بأنّهم يعملون بضدّ ما يعاملهم به. والمراد بالبُعد بُعد الزمن والمكان والنسب، فزمن لوط عليه السّلام غير بعيد في زمن شعيب عليه السّلام، والدّيار قريبة من ديارهم، إذ منازل مدين عند عقبة أيلة مجاورة معان ممّا يلي الحجاز، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(وما قوم لوط منكم ببعيد) فلا زمانهم بعيد عنكم كثيراً، ولا مكان حياتهم، كما أنّ أعمالكم وذنوبكم لا تقل عن أعمالهم وذنوبهم أيضاً. و«مدين» التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط، لأنّ الموطنين كلاهما كانا من مناطق «الشامات» وإذا كان بينهما فاصل زمني، فلم يكن الفاصل بالمقدار الذي يستدعي نسيان تأريخه، وأمّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الانحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والانحراف الاقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإِخلال بالنظام الاجتماعي وإِماتة الفضائل الخُلقية وإِشاعة الانحراف، ومن هنا نجد في الرّوايات أحياناً مقارنة الدرهم الربوي المرتبط بالطبع بالمسائل الاقتصادية بالزنا الذي هو تلوّث جنسي...