اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَٰقَوۡمِ لَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ} (89)

قوله : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من " جرم " ثلاثيًّا . وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من " أجرم " وقد تقدَّم [ هود 22 ] أنَّ " جَرَمَ " يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل : كسب ، فيقال : جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو : كَسَبَهُ ، وجرمْتُه ذَنْباً ، أي : كسبته إياه فهو مثلُ كسب ؛ وأنشد الزَّمخشري على تعدِّية لاثنين قوله : [ الكامل ]

ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً *** جَرَمَتْ فَزارضةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا{[18953]}

فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول .

والثاني : هو " أنْ يصيبكُم " أي : لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدًَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى ، أو بينهما فرق .

ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير .

والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام " مِثْلُ " رفعاً على أنَّه فاعل " يُصِيبَكُم " وقرأ مجاهدٌ{[18954]} والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان :

أحدهما : أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة ، وإنَّما بُني على الفتح ؛ لإضافته إلى غير متمكن ؛ كقوله تعالى :

{ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] وكقوله : [ البسيط ]

لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ *** حمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ{[18955]}

وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [ الأنعام : 94 ] .

والثاني : أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة لإعراب ، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام ، أي : يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب .

فصل

والمعنى : لا يكسبنكم " شِقَاقِي " خلافي : " أنْ يُصِيبكم " عذاب الاستئصال في الدنيا " مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح " من الغرقِ ، وقوم هود من الريح ، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ ، وقوم لوط من الخسْفِ .

قوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أتى ب " بَعِيد " مفراداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ : إمَّا لحذف مضاف تقديره : وما إهلاك قوم ، وإمَّا باعتبار زمانٍ ، أي : بزمانً بعيد ، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيب ، وإمَّا باعتبار مكان ، أي : بمكان بعيد ؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين ، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهما ، أي : بشيءٍ بعيد ، كذا قدّره الزمخشريُّ ، وتبعه أبو حيَّان ، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَمان عن الجُثَّةِ . وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في " قَرِيب " و " بَعِيد " و " قَلِيل " و " كَثير " بين المذكِّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل ، والنَّهيق ونحوهما .


[18953]:نسب البيت لأبي أسماء بن الضريبة الفزاري ولعطية بن عوف ينظر: الكتاب 7/138 والمقتضب 2/351 وشرح الرضي 2/362 والمخصص 13/117 ومجاز القرآن 1/147 والخزانة 10/283 والجمهرة 2/84 وروح المعاني 12/121 والتهذيب 1/65 وشرح الكافية 2/362 والدر المصون 4/24 والاقتضاب (312) واللسان التاج [جرم].
[18954]:نقلها الزمخشري عن نافع في الكشاف 2/422 وقرأ بها أيضا ابن أبي إسحاق ينظر: المحرر الوجيز 3/202 والبحر المحيط 5/255 والدر المصون 4/125.
[18955]:تقدم.