الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيَٰقَوۡمِ لَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ} (89)

قوله تعالى : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } : العامَّةُ على فَتْح ياءِ المضارعة من جَرم ثلاثياً . وقرأ الأعمشُ وابنُ وثاب بضمِّها مِنْ أجرم . وقد تقدم أنَّ " جَرَمَ " يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل كسب ، فيقال : جَرَم زيدٌ مالاً نحو : كَسَبه ، وجَرَمْتُه ذَنْباً ، أي : كَسَبَتْه إياه فهو مثلُ كَسَب ، وأنشد الزمخشري على تعدِّيه لاثنين قولَ الشاعر :

2698 ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً *** جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها أن يَغْضَبوا

فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول ، والثاني هو : أن يُصيبكم أي : لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابةَ العذاب . وقد تقدم أن جَرَم وأَجْرم بمعنىً ، أو بينهما فرق . ونسب الزمخشري ضمَّ الياءِ مِنْ أجرم لابن كثير .

والعامَّةُ أيضاً على ضم لام " مثلُ " رفعاً على أنه فاعل " يُصيبكم " ، وقرأ مجاهد والجحدري بفتحها ، وفيها وجهان ، أحدهما : أنها فتحة بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة ، وإنما بُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }

[ الذاريات : 23 ] وكقوله :

2699 لمَ يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطقَتْ *** حَمامةٌ في غُصون ذات أَوْقالِ

وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدةِ في الأنعام . والثاني : أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة للإِعراب ، والفاعلُ على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام ، أي : يصيبكم العذاب إصابةً مثلَ ما أصابَ .

قوله : { بِبَعِيدٍ } أتى ب " بعيد " مفرداً وإن كان خبراً عن جمعٍ لأحد أوجهٍ : إمَّا لحَذف مضاف تقديرُه : وما إهلاك قومٍ ، وإمَّا باعتبار زمان ، أي : بزمانٍ بعيد ، وإما باعتبار مكان ، أي : بمكان بعيد ، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرِهما ، أي : بشيءٍ بعيد ، كذا قدَّره الزمخشري ، وتبعه الشيخ ، وفيه إشكالٌ من حيث إنَّ تقديرَه بزمان يلزم فيه الإِخبارُ بالزمان عن الجثَّة . وقال الزمخشري أيضاً : " ويجوز أن يُسَوَّى في " قريب " و " بعيد " و " قليل " و " كثير " بين المذكر والمؤنث لورودِها على زِنَةِ المصادر التي هي كالصَّهيل والنهيق ونحوهما " .