الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَيَٰقَوۡمِ لَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ} (89)

«جرم » مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد ، وإلى مفعولين تقول : جرم ذنباً وكسبه ، وجرمته ذنباً وكسبته إياه ، قال :

جَرِمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا ***

ومنه قوله تعالى : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم } أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب . وقرأ ابن كثير بضم الياء ، من أجرمته ذنباً ، إذا جعلته جارماً له ، أي كاسباً ، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد ، كما نقل : أكسبه المال ، من كسب المال . وكما لا فرق بين كسبته ما لا وأكسبته إياه ، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه . والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما . إلا أن المشهورة أفصح لفظاً ، كما إن كسبته ما لا أفصح من أكسبته . والمراد بالفصاحة : أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، وهم له أكثر استعمالاً . وقرأ أبو حيوة ، ورويت عن نافع : { مّثْلُ مَا أَصَابَ } ، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله :

لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْب مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ***

{ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ } يعني أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم ، فهم أقرب الهالكين منكم . أو لا يبعدون منكم في الكفر والمساوي وما يستحق به الهلاك .

فإن قلت : ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه ؟ قلت : إما أن يراد : وما إهلاكهم ببعيد ، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد . ويجوز أن يسوي في قريب وبعيد ، وقليل وكثير ، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما .