قوله تعالى : { ربما } قرأ أبو جعفر ونافع وعاصم بتخفيف الباء والباقون بتشديدها ، وهما لغتان ، ورب للتقليل وكم للتكثير ، ورب تدخل على الاسم ، وربما على الفعل ، يقال : رب رجل جاءني ، وربما جاءني رجل ، وأدخل ما هاهنا للفعل بعدها . { يود } ، يتمنى ، { الذين كفروا لو كانوا مسلمين } . واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها الإسلام . قال الضحاك : حالة المعاينة . وقيل : يوم القيامة . والمشهور أنه حين يخرج الله المؤمنين من النار .
وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اجتمع أهل النار في النار ، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين ؟ قالوا بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار ؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ، فيغفر الله تعالى لهم بفضل رحمته ، فيأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فيخرجون منها ، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . فإن قيل : كيف قال ربما وهي للتقليل وهذا التمني يكثر من الكفار ؟ قلنا : قد تذكر ربما للتكثير ، أو أراد : أن شغلهم بالعذاب لا يفرغهم للندامة إنما يخطر ذلك ببالهم أحيانا .
وقرأ نافع وعاصم «ربَما » بتخفيف الباء . وقرأ الباقون بشدها ، إلا أن أبا عمرو قرأها على الوجهين ، وهما لغتان{[7124]} ، وروي عن عاصم «رُبُما » بضم الراء والباء مخففة ، وقرأ طلحة بن مصرف «ربتما » بزيادة تاء ، وهي لغة . و { ربما } للتقليل وقد تجيء شاذة للتكثير ، وقال قوم : إن هذه من ذلك ، ومنه :
رب كأس هرقت يا ابن لؤي . . . .
وأنكر الزجاج أن تجيء «رب » للتكثير{[7125]} . و «ما » التي تدخل عليها «رب » قد تكون اسماً نكرة بمنزلة شيء ، وذلك إذا كان في الضمير عائد عليه ، كقول الشاعر : [ الخفيف ]
ربما تكره النفوس من الأم . . . ر له فرجة كحل العقال{[7126]}
التقدير : رب شيء ، وقد تكون حرفاً كافاً لرب وموطئاً لها لتدخل على الفعل إذ ليس من شأنها أن تدخل إلا على الأسماء ، وذلك إذا لم يكن ثم ضمير عائد كقول الشاعر : [ جذيمة الأبرش ] [ المديد ]
ربما أوفيت في علم . . . ترفعن ثوبي شمالات{[7127]}
قال القاضي أبو محمد : وكذلك دخلت «ما » على «من » كافة ، في نحو قوله :«وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه »{[7128]} . ونحو قول الشاعر : [ الطويل ]
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة . . . على رأسه تلقي اللسان من الفم{[7129]}
قال الكسائي والفراء : الباب في «ربما » أن تدخل على الفعل الماضي ، ودخلت هنا على المستقبل إذ هذه الأفعال المستقبلة من كلام الله تعالى لما كانت صادقة حاصلة ولا بد جرت مجرى الماضي الواقع .
قال القاضي أبو محمد : وقد تدخل رب على الماضي الذي يراد به الاستقبال ، وتدخل على العكس . والظاهر في { ربما } في هذه الآية أن «ما » حرف كاف - هكذا قال أبو علي ، قال : ويحتمل أن تكون اسماً ، ويكون في { يود } ضمير عائد عليه ، التقدير : رب ود أو شيء يوده { الذين كفروا لو كانوا مسلمين } .
قال القاضي أبو محمد : ويكون { لو كانوا مسلمين } بدلاً من «ما » .
وقالت فرقة : تقدير الآية : ربما كان يود الذين كفروا . قال أبو علي : وهذا لا يجيزه سيبويه ، لأن كان لا تضمر عنده .
واختلف المتأولون في الوقت الذي يود فيه الكفار أن لو كانوا مسلمين ، فقالت فرقة : هو عند معاينة الموت في الدنيا - حكى ذلك الضحاك - وفيه نظر ، لأنه لا يقين للكافر حينئذ بحسن حال المسلمين ، وقالت فرقة : هو عند معاينة أهوال يوم القيامة - قاله مجاهد - وهذا بين ، لأن حسن حال المسلمين ظاهر ، فتود ، وقال ابن عباس وأنس بن مالك : هو عند دخولهم النار ومعرفتهم بدخول المؤمنين الجنة ، واحتج لهذا القول بحديث روي في هذا من طريق أبي موسى الأشعري وهو : أن الله إذا أدخل عصاة المسلمين النار نظر إليهم الكفار فقالوا : ليس هؤلاء من المسلمين فماذا أغنت عنهم لا إله إلا الله ؟ قال : فيغضب الله تعالى لقولهم ، فيقول : أخرجوا من النار كل مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«فحينئذ يود الذين كفروا أن لو كانوا مسلمين »{[7130]} .
قال القاضي أبو محمد : ومن العبر في هذه الآية حديث الوابصي الذي في صدر ذيل الأمالي ، ومقتضاه أنه ارتد ونسي القرآن إلا هذه الآية .
استئناف ابتدائي وهو مفتتح الغرض وما قبله كالتنبيه والإنذار .
و { ربما } مركبة من ( رب ) . وهو حرف يدل على تنكير مدخوله ويجر ويختص بالأسماء . وهو بتخفيف الباء وتشديدها في جميع الأحوال . وفيها عدة لغات .
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بتخفيف الباء . وقرأ الباقون بتشديدها .
واقترنت بها ( ما ) الكافة ل ( ربّ ) عن العمل . ودخول ( ما ) بعد ( رب ) يكُف عملها غالباً . وبذلك يصح دخولها على الأفعال . فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يراد بها التقليل .
والأكثر أن يكون فعلاً ماضياً ، وقد يكون مضارعاً للدلالة على الاستقبال كما هنا . ولا حاجة إلى تأويله بالماضي في التحقق .
ومن النحويين من أوجب دخولها على الماضي ، وتأول نحو الآية بأنه منزّل منزلة الماضي لتحققه . ومعنى الاستقبال هنا واضح لأن الكفار لم يَودّوا أن يكونوا مسلمين قبل ظهور قوة الإسلام من وقت الهجرة .
والكلام خبر مستعمل في التهديد والتهويل في عدم اتباعهم دين الإسلام . والمعنى : قد يود الذين كفروا لو كانوا أسلموا .
والتقليل هنا مستعمل في التهكم والتخويف ، أي احذروا وَدادتكم أن تكونوا مسلمين ، فلعلها أن تقع نادراً كما يقول العرب في التوبيخ : لعلك ستندم على فعلك ، وهم لا يشكون في تندمه ، وإنما يريدون أنه لو كان الندم مشكوكاً فيه لكان حقاً عليك أن تفعل ما قد تندم على التفريط فيه لكي لا تندم ، لأن العاقل يتحرز من الضُر المظنون كما يتحرز من المتيقن .
والمعنى أنهم قد يودّون أن يكونوا أسلموا ولكن بعد الفوات .
والإتيان بفعل الكون الماضي للدلالة على أنهم يودون الإسلام بعد مضي وقت التمكن من إيقاعه ، وذلك عندما يقتلون بأيدي المسلمين ، وعند حضور يوم الجزاء ، وقد ودّ المشركون ذلك غير مرة في الحياة الدنيا حين شاهدوا نصر المسلمين .
وعن ابن مسعود : ودّ كفارُ قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر المسلمين . ويتمنّون ذلك في الآخرة حين يساقون إلى النار لكفرهم ، قال تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسول سبيلا } [ سورة الفرقان : 27 ] . وكذلك إذا أخرج عصاة المسلمين من النار ودّ الذين كفروا في النار لو كانوا مسلمين ، على أنهم قد ودُّوا ذلك غير مرة وكتموه في نفوسهم عناداً وكفراً . قال تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } [ سورة الأنعام : 27 ، 28 ] ، أي فلا يصرحون به .
ولو } في { لو كانوا مسلمين } مستعملة في التمني لأن أصلها الشرطية إذ هي حرف امتناع لامتناع ، فهي مناسبة لمعنى التمني الذي هو طلب الأمر الممتنع الحصول ، فإذا وقعت بعد ما يدل على التمني استعملت في ذلك كأنها على تقدير قول محذوف يقوله المتمني ، ولما حذف فعل القول عدل في حكاية المقول إلى حكايته بالمعنى . فأصل { لو كانوا مسلمين } لو كُنّا مسلمين .
والتزم حذف جواب { لو } اكتفاء بدلالة المقام عليه ثم شاع حذف القول ، فأفادت { لو } معنى المصدرية فصار المعنى : يودّ الذين كفروا كونهم مسلمين ، ولذلك عَدُّوها من حروف المصدرية وإنما المصدر معنى عارض في الكلام وليس مدلولها بالوضع .