قوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ } في " رُبَّ " قولان :
أحدهما : أنها حرف جرٍِّ ، وزعم الكوفيُّون ، وأبو الحسنِ ، وابنُ الطَّراوة : أنها اسمٌ ، ومعناها : التَّقليلُ على المشهور .
وقيل : تفيد التكثير في مواضع الافتخار ؛ كقوله : [ الطويل ]
فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهوْتَُ ولَيْلةٍ *** بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثَالِ{[19421]}
وقد أجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النَّظير .
" رُبَّ " بضمِّ الراءِ وفتحها كلاهما مع تشديد الباء ، وتخفيفها ، فهذه أربع ، ورويت بالأوجه الأربعة ، مع تاء التأنيث المتحركة ، و " رُب " بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء ، و " رُبُّ " بضم الراء والباء معاً مشددة ومخففة ، و " رُبَّت " .
وأشهرها : " رُبَّ " بالضم والتشديد والتخفيف ، وبالثانية{[19422]} قرأ عاصمٌ ونافعٌ وباتصالها بتاء التأنيث ، قرأ طلحة بن مصروف{[19423]} ، وزيد بن علي : " رُبَّتما " ، ولها أحكام كثيرة :
منها : لزوم تصديرها ، ومنها تنكير مجرورها ؛ وقوله : [ الخفيف ]
رُبَّما الجَاملِ المُؤبل فِيهمْ *** وعَناجيجُ بَينهُنَّ المَهارِي{[19424]}
ضرورة في رواية من جرَّ " الجَاملِ " .
ويجر ضمير لازم التفسير بعده ، ويستغنى بتثنيتها وجمعها ، وتأنيثها عن تثنية الضمير ، وجمعه ، وتأنيثه ؛ كقوله : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ورُبَّهُ عَطِباً أنْقَذْتَ مِنْ عَطَبِهْ{[19425]}
والمطابقة ؛ نحو : ربَّهُما رجُلَيْنِ ، نادر ، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره ، نحو : رُبَّ رجُلٍ وأخيه ، وهل يلزم وصف مجرورها ؛ ومضيُّ ما يتعلق به على خلاف ، والصحيح عدم ذلك ؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند : [ مجزوء الكامل ]
يَا رُبَّ قائلةٍ غَدًا *** يَا لَهْفَ أم مُعاوِيَه{[19426]}
ومن مجيء المستقبل ، قوله : [ الوافر ]
فَإن أهْلِكَ فرُبَّ فتًى سَيَبْكِي *** عَليَّ مُهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ{[19427]}
يَا رُبَّ قَائلةٍ غَداً *** . . . . . . . . . . . . . . . . {[19428]}
ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى *** سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ{[19429]}
فإن حرف التنفيس ، و " غداً " خلَّصاه للاستقبال .
و " رُبَّ " تدخل على الاسم ، و " رُبَّما " على الفعل ، ويقال : ربَّ رجُلٍ جَاءنِي ، ورُبَّما جَاءنِي .
و " ما " في " رُبمَا " ، تحتمل وجهين :
أظهرهما : أنها المهيئة ، بمعنى أنَّ " رُبَّ " مختصة بالأسماءِ ، فلما جاءت هنا " ما " هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [ يونس : 27 ] في " إنَّ " وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل ؛ كقوله : [ الخفيف ]
رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّل فِيهِمْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19430]}
في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه .
والثاني : أنَّ " مَا " نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها ، والعائد على " ما " محذوف تقديره : ربَّ شيء يوده الذين كفروا ، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها ، لم يحتج إلى تأويل ، ومن التزم ذلك قال : لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة ، فعبَّر عنه بالماضي ، تحقيقاً لوقوعه ؛ كقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ونحوه .
قوله : " لَوْ كَانُوا " يجوز في " لَوْ " وجهان : أحدهما : أن تكون الامتناعيَّة ، وحينئذ ، يكون جوابها محذوفاً ، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه ، ومفعول " يوَدُّ " محذوف على هذا التقدير ، أي : ربما يودُّ الذين كفروا النجاة ، دلَّ عليه الجملة الامتناعية .
والثاني : أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك ، كما تقدم تقريره في البقرة [ البقرة : 96 ] ؛ وحينئذ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة ، أي : يودُّون كونهم مسلمين ، إن جعلنا " ما " كافة ، وإن جعلناها نكرة ، كانت " لَوْ " وما في حيِّزها بدلاً من " مَا " .
المعنى : يتمنَّى الذين كفورا لو كانوا مسلمين ، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها .
قال الضحاك : حال المعاينة{[19431]} .
والمشهور : أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار .
روى أبو موسى الأشعريُّ -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ : ألَسْتُم مُسْلمينَ ؟ قالوا : بَلى ، قالوا : فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم ، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ ، قالوا : كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا ، [ فيغفر ]{[19432]} الله لَهُمْ ، بِفضْلِ رَحْمتهِ ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار ، فيَخْرجُونَ مِنْهَا ، فحينئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ " {[19433]} .
فإن قيل : " رُبمَا " للتقليل ، وهذا التَّمني يكثر من الكفار .
فالجواب : أنَّ " رُبمَا " يراد بها التكثير ، والمقصود إظهار الترفع ، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض ؛ فيقولون : ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ ، قال : [ البسيط ]
أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19434]}
وقيل : التقليل أبلغ في التهديد ، والمعنى : أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل ، فكيف كثيره ؟ .
وقيل : إنْ شغلهم بالعذاب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً .
فإن قيل : إذا كان أهل القيامةِ ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال ، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه ، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ .
فالجواب : أحوالُ أهل الآخرةِ ، لا تقاس بأحوال الدنيا ؛ فإن الله –تعالى- يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه ، وينزع عن قلوبهم الحسد ، وطلب الزياداتِ ؛ كما قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الحجر : 47 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.