اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ} (2)

قوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ } في " رُبَّ " قولان :

أحدهما : أنها حرف جرٍِّ ، وزعم الكوفيُّون ، وأبو الحسنِ ، وابنُ الطَّراوة : أنها اسمٌ ، ومعناها : التَّقليلُ على المشهور .

وقيل : تفيد التكثير في مواضع الافتخار ؛ كقوله : [ الطويل ]

فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهوْتَُ ولَيْلةٍ *** بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثَالِ{[19421]}

وقد أجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النَّظير .

وفيها سبعة عشرة لغة وهي :

" رُبَّ " بضمِّ الراءِ وفتحها كلاهما مع تشديد الباء ، وتخفيفها ، فهذه أربع ، ورويت بالأوجه الأربعة ، مع تاء التأنيث المتحركة ، و " رُب " بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء ، و " رُبُّ " بضم الراء والباء معاً مشددة ومخففة ، و " رُبَّت " .

وأشهرها : " رُبَّ " بالضم والتشديد والتخفيف ، وبالثانية{[19422]} قرأ عاصمٌ ونافعٌ وباتصالها بتاء التأنيث ، قرأ طلحة بن مصروف{[19423]} ، وزيد بن علي : " رُبَّتما " ، ولها أحكام كثيرة :

منها : لزوم تصديرها ، ومنها تنكير مجرورها ؛ وقوله : [ الخفيف ]

رُبَّما الجَاملِ المُؤبل فِيهمْ *** وعَناجيجُ بَينهُنَّ المَهارِي{[19424]}

ضرورة في رواية من جرَّ " الجَاملِ " .

ويجر ضمير لازم التفسير بعده ، ويستغنى بتثنيتها وجمعها ، وتأنيثها عن تثنية الضمير ، وجمعه ، وتأنيثه ؛ كقوله : [ البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ورُبَّهُ عَطِباً أنْقَذْتَ مِنْ عَطَبِهْ{[19425]}

والمطابقة ؛ نحو : ربَّهُما رجُلَيْنِ ، نادر ، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره ، نحو : رُبَّ رجُلٍ وأخيه ، وهل يلزم وصف مجرورها ؛ ومضيُّ ما يتعلق به على خلاف ، والصحيح عدم ذلك ؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند : [ مجزوء الكامل ]

يَا رُبَّ قائلةٍ غَدًا *** يَا لَهْفَ أم مُعاوِيَه{[19426]}

ومن مجيء المستقبل ، قوله : [ الوافر ]

فَإن أهْلِكَ فرُبَّ فتًى سَيَبْكِي *** عَليَّ مُهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ{[19427]}

وقول هند : [ مجزوء الكامل ]

يَا رُبَّ قَائلةٍ غَداً *** . . . . . . . . . . . . . . . . {[19428]}

وقول سليم : [ الطويل ]

ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى *** سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ{[19429]}

فإن حرف التنفيس ، و " غداً " خلَّصاه للاستقبال .

و " رُبَّ " تدخل على الاسم ، و " رُبَّما " على الفعل ، ويقال : ربَّ رجُلٍ جَاءنِي ، ورُبَّما جَاءنِي .

و " ما " في " رُبمَا " ، تحتمل وجهين :

أظهرهما : أنها المهيئة ، بمعنى أنَّ " رُبَّ " مختصة بالأسماءِ ، فلما جاءت هنا " ما " هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [ يونس : 27 ] في " إنَّ " وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل ؛ كقوله : [ الخفيف ]

رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّل فِيهِمْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19430]}

في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه .

والثاني : أنَّ " مَا " نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها ، والعائد على " ما " محذوف تقديره : ربَّ شيء يوده الذين كفروا ، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها ، لم يحتج إلى تأويل ، ومن التزم ذلك قال : لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة ، فعبَّر عنه بالماضي ، تحقيقاً لوقوعه ؛ كقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ونحوه .

قوله : " لَوْ كَانُوا " يجوز في " لَوْ " وجهان : أحدهما : أن تكون الامتناعيَّة ، وحينئذ ، يكون جوابها محذوفاً ، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه ، ومفعول " يوَدُّ " محذوف على هذا التقدير ، أي : ربما يودُّ الذين كفروا النجاة ، دلَّ عليه الجملة الامتناعية .

والثاني : أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك ، كما تقدم تقريره في البقرة [ البقرة : 96 ] ؛ وحينئذ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة ، أي : يودُّون كونهم مسلمين ، إن جعلنا " ما " كافة ، وإن جعلناها نكرة ، كانت " لَوْ " وما في حيِّزها بدلاً من " مَا " .

فصل

المعنى : يتمنَّى الذين كفورا لو كانوا مسلمين ، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها .

قال الضحاك : حال المعاينة{[19431]} .

وقيل : يوم القيامة .

والمشهور : أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار .

روى أبو موسى الأشعريُّ -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ : ألَسْتُم مُسْلمينَ ؟ قالوا : بَلى ، قالوا : فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم ، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ ، قالوا : كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا ، [ فيغفر ]{[19432]} الله لَهُمْ ، بِفضْلِ رَحْمتهِ ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار ، فيَخْرجُونَ مِنْهَا ، فحينئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ " {[19433]} .

فإن قيل : " رُبمَا " للتقليل ، وهذا التَّمني يكثر من الكفار .

فالجواب : أنَّ " رُبمَا " يراد بها التكثير ، والمقصود إظهار الترفع ، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض ؛ فيقولون : ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ ، قال : [ البسيط ]

أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19434]}

وقيل : التقليل أبلغ في التهديد ، والمعنى : أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل ، فكيف كثيره ؟ .

وقيل : إنْ شغلهم بالعذاب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً .

فإن قيل : إذا كان أهل القيامةِ ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال ، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه ، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ .

فالجواب : أحوالُ أهل الآخرةِ ، لا تقاس بأحوال الدنيا ؛ فإن الله –تعالى- يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه ، وينزع عن قلوبهم الحسد ، وطلب الزياداتِ ؛ كما قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الحجر : 47 ] .


[19421]:البيت لامرئ القيس ينظر ديوانه ص (29)، التصريح: 1812 المقرب 221، المغني 2/649، شواهد المغني للسيوطي 393، الهمع 2/261، الدرر 1812، شواهد المغني للبغدادي 3/161.
[19422]:ينظر: السبعة 366 والحجة 5/35 وإعراب القراءات السبع 1/339 وحجة القراءات 380 والإتحاف 2/173 والمحرر الوجيز 3/349 والبحر المحيط 5/433 والدر المصون 4/285.
[19423]:ينظر: المحرر الوجيز 3/349 والبحر المحيط 5/433 والدر المصون 4/285.
[19424]:تقدم.
[19425]:عجز بيت وصدره: واه رأيت وشيكا صدع أعظمه *** ...................... ينظر الأشموني 2/407، الكافية الشافية 2/794، شرح التسهيل 1/162، الهمع 1/66، الألوسي 14/5، العيني 3/257، الدرر 1/45، اللسان: عطب.
[19426]:ينظر: المغني 1/137، الهمع 2/28، الدرر 2/22، البحر 5/433 روح المعاني 14/6، شواهد المغني للبغدادي 3/212.
[19427]:البيت لمحمد بن مالك الضبي. ينظر: أمالي القالي 1/2781. سمط اللآلي 617، الخزانة 4/484، الجني الداني 452، 457، المغني 1/146، رصف المباني 271، شواهد المغني للسيوطي 407، شواهد المغني للبغدادي 3/203. البحر 5/433.
[19428]:تقدم.
[19429]:ينظر: روح المعاني 14/6، شواهد المغني للبغدادي 3/204.
[19430]:تقدم.
[19431]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/43).
[19432]:في ب: فيتفضل.
[19433]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/489) وابن أبي عاصم في "السنة" (2/442) والحاكم (2/405) والطبراني كما في مجمع الزوائد" (7/48) من طريق خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وخالد بن نافع فيه ضعف. فقد ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/355) ونقل عن أبيه قوله: شيخ ليس بالقوي وقال أبو زرعة ضعيف الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الهيثمي في "المجمع" (7/48): وفيه خالد بن نافع الأشعري قال أبو دواد: متروك، قال الذهبي: هذا تجاوز في الحد فلا يستحق الترك فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره. وللحديث شاهد عن ابن عباس موقوفا: أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/489) والحاكم (2/353) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وله شاهد آخر: أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (2/406) رقم (844) من طريق أبي الخطاب العتكي عن أنس بن مالك مرفوعا.
[19434]:تقدم.